الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الديمقراطية العربية وأزمة الأحزاب السياسية، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في تونس، لم يتجاوز تمثيل الأحزاب في المجلس النيابي ثمانية بالمئة من عدد المقاعد الإجمالية. وعلى الرغم من مقاطعة جل الأحزاب الكبرى للانتخابات، إلا أن تراجع وانهيار الأحزاب السياسية في العالم العربي أصبح حقيقة راسخة في كل البلدان ولا يتعلق بموقف طرفي بعينه.

يمكن أن نميز في الحياة الحزبية العربية بين أربعة تشكيلات كبرى: أحزاب الحركة الوطنية التي ارتبطت بديناميكية مقاومة الاستعمار وبناء الدولة الوطنية الحديثة، وأحزاب الدولة التي تنشئها الأنظمة السياسية الحاكمة ذراعًا سياسيًّا وانتخابيًّا لها، والأحزاب الأيديولوجية التي تحمل مشاريع فكرية ومجتمعية وتعبر عن منظومة أفكار وتصورات عمومية، والأحزاب الفئوية التي تعبر عن مطالب مجموعات قومية أو طائفية بعينها.

بخصوص أحزاب الحركة الوطنية، يلاحظ أنها في أغلبها انهارت أو كادت أن تنهار بعد مرور عقود طويلة على لحظة الاستقلال والتحرر الوطني. مثال هذه التنظيمات حزب الوفد العريق في مصر الذي قاد حركية المقاومة ضد الحماية البريطانية، ودعا إلى الاستقلال، وقاد عملية التحديث السياسي والاقتصادي، وارتبط بالتجربة الليبرالية في الأربعينيات، وهو اليوم حزب هامشي ليس له حضور ولا تأثير في المجال العمومي والأهلي. نفس الحكم يصدق على “الحزب الدستوري” في تونس الذي كان حزب الحركة الوطنية منذ بدايات القرن العشرين وقد انهار مع نهاية عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي الذي حوله إلى مجرد جهاز سياسي لنظام حكمه. قد يكون الاستثناء هو حزب “الاستقلال” المغربي، الذي تأسس في أربعينيات القرن الماضي وتفرعت منه أحزاب أخرى، ولا يزال إلى اليوم تنظيمًا شعبيًّا مكينًا رغم تراجع موقعه وتأثيره.

أما أحزاب الحكم، فعادة ما تختفي بسقوط الأنظمة التي شكلتها، والدليل على ذلك انهيار “الاتحاد الاشتراكي العربي” الذي أسسه الزعيم جمال عبد الناصر سنة 1962 وكان في عهده ركيزة النظام السياسي، ولم يعد الحزب الناصري في مصر اليوم سوى تنظيم ضعيف ومفكك رغم الشعبية الواسعة التي لا يزال يتمتع بها الزعيم الراحل في مصر وبقية العالم العربي. الحكم نفسه يصدق على “الحزب الوطني الديمقراطي” الذي أسسه الرئيس الأسبق أنور السادات عام 1978 واستمر خليفته حسني مبارك في رئاسته ثم انهار كليًّا بعد أحداث يناير 2011. من يذكر الأحزاب التي أسسها جعفر نميري، ومعاوية ولد الطايع، وسياد بري وعلي عبد الله صالح؟ كلها انهارت وتلاشت بعد سقوط أحكامهم.

أما الأحزاب الأيديولوجية فتنقسم إجمالًا إلى ثلاث دوائر: التيار اليساري المتمحور حول الفكر الماركسي، والتيار القومي العربي، وتيار الإسلام السياسي. لا مندوحة من الإقرار بأن الأحزاب اليسارية العريقة في العالم العربي انهارت في الغالب، بداية من الأحزاب الشيوعية التي كانت قوية في مصر، والسودان، والمغرب وتونس، ولم تنجح التنظيمات الاشتراكية التي تأسست على أنقاضها (مثل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في المغرب والتجمع الوطني التقدمي في مصر) في سد الفراغ الذي خلفه انحسار الحركة الشيوعية العربية.

أما التنظيمات القومية، فأهمها “حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي كان حاكمًا في العراق وسوريا، وكان له حضور قوي في العديد من البلدان العربية الأخرى، ولقد انهار في العراق بعد سقوط صدام حسين وما يزال له بعض التأثير المحدود في الحياة السياسية في السودان، وموريتانيا والأردن، أما في سوريا فلا يبدو أكثر من حزب حكم محلي. 

بخصوص تنظيمات الإسلام السياسي، نلاحظ أنها تعطي انطباعًا مغلوطًا بكونها لا تزال قوية وفاعلة، بيد أن المؤشرات الانتخابية والسياسية الأخيرة تؤكد انحسارها وتراجعها، كما هو ظاهر في البلدان التي وصلت فيها إلى مركز الحكم أو شاركت فيه، مثل مصر، وتونس، والمغرب والسودان وليبيا.

بقي الحديث عن الأحزاب الفئوية، التي استفاد العديد منها من حركية الانفتاح السياسي والتعددية الحزبية، كما هو شأن الأحزاب الكردية في العراق التي سيطرت على الإقليم الشمالي شبه المستقل، وكما هو شأن حزب الأمة (لسان حال الطائفة المهدية)، والحزب الاتحادي (لسان حال الطائفة الختمية) في السودان، أو حزب الكتائب اللبناني الممثل للطائفة المسيحية. بيد أن ما نلمسه من حيوية هذه التنظيمات الفئوية هو في الحقيقة مظهر أزمة سياسية عميقة تنخر الدولة الوطنية وتهدد بنيانها السياسي والمدني.

خلاصة الأمر إذن، أن الحياة الحزبية في عالمنا العربي تشهد انتكاسة حقيقية، لها أثرها البالغ على طبيعة وإمكانات التحول الديمقراطي المنشود.

لقد ظهرت في الآونة الأخيرة أطروحتان، تذهب إحداهما إلى أن الأحزاب السياسية في الديمقراطيات العريقة قد تراجعت ونحن في طور الانتقال إلى نمط جديد من الديمقراطية غير الحزبية، بينما تذهب الأطروحة الأخرى إلى أن الساحة العربية ليست مهيأة لأسباب مجتمعية جوهرية لقيام أحزاب سياسية تعبر عن الخارطة الطبقية والمدنية للحقل السياسي.

الأطروحة الأولى تستند إلى ظاهرة انحسار صراع اليمين واليسار الذي شكل في السابق محور الحياة الحزبية في الغرب. وبترجمة هذه الظاهرة في السياق العربي، يظهر أن التشكيلات القائمة أصابها نفس التحول على المستوى الأيديولوجي وبالتالي فقدت مرتكزاتها الأيديولوجية على غرار ما حدث في العالم كله.

أما الأطروحة الثانية، فتنطلق من اعتبارات أنثربولوجية اجتماعية تتمثل في القول بهشاشة قيم التعددية والاختلاف في الثقافة العربية ذات التركيبة “الأبوية” و”البطركية” (هشام شرابي وحليم بركات وغيرهما)،  وانعدام نسق طبقي على اساس قسمة العمل وعلاقات الإنتاج الاقتصادية (سمير أمين وغيره). 

لا يمكن تفسير معضلة انهيار الأحزاب السياسية العربية من المنظورين، لكون العامل الأول يتعلق في الحقيقة بتغير أساليب العمل السياسي في المجتمعات الليبرالية المتقدمة بتغير وسائط الاتصال ونمط سوق العمل دون أن تتبدل التركيبة السياسية التعددية ذاتها، في حين أن العامل الثاني ينطلق من مقاربة ثقافوية ضحلة لا تقيم شأنًا للحركية الديناميكية للقيم والثقافة في سياق التحولات السياسية والمجتمعية، كما سنبيّن لاحقًا.