الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الديمقراطية والوساطة بقلم عضو مجلس أمناء منظمة النهضة العربية (أرض)، المفكر المغربي أ. د. علي أومليل

مشاركة

للديمقراطية مشكل مُزمن، مصدره تعريفها الأصلي الذي هو حكم الشعب. فما هو هذا الشعب؟ وكيف يمكنه فعليًّا أن يحكم نفسه بنفسه؟

فحين نشأت الديمقراطية، وعرّفت بالتعريف المذكور كان ذلك في مدينة، وهي أثينا اليونانية حيث كان مواطنوها يجتمعون في ساحتها العامة يتداولون في شؤونهم وينتخبون حكامهم وقضاتهم. كان اجتماعًا لمواطني المدينة باستثناء العبيد والنساء والغرباء عنها. وكان عدد السكان محدودًا، وكانوا معروفين، كما كان المكان محدودًا أيضًا.

لكن، حين استؤنف النظام الديمقراطي مع بداية العصور الحديثة، تضخم عدد السكان واتّسعت الرقعة الجغرافية، وأصبحت الدولة دولة الأمة ولم تعد دولة المدينة.

لذلك، أصبحت الديمقراطية نيابية، أي بوساطة عدد محدود ينوب عن الباقي. فطُرحت الأسئلة التالية: كيف يمكن لديمقراطية الوساطة النيابية هذه أن تعبر تعبيرًا حقيقيًّا عن مصالح الشعب أو أغلبيته الناخبة؟ وهل يمكن للبرلمان -وهو بيت القانون والرقابة على الحكومة- أن يكون صورة أمينة مصغرة للشعب كما قال جون آدمز، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة؟ كيف لا يصبح النواب خدّام مصالحهم الشخصية والفئوية ومصالح أصحاب ومراكز النفوذ فيفقد النظام الديمقراطي النيابي الثقة والمصداقية؟

إضافة إلى الوساطة النيابية، هناك وساطات أخرى، كوساطة الخبراء الاستشاريين في صياغة القرارات، ووساطة التحكيم خارج المحاكم في الفصل في قضايا النزاع، إضافة إلى وساطة الأحزاب السياسية في التنظيم السياسي للمواطنين والترشيح للانتخابات والتعبئة أثناء الحملات الانتخابية. فقد نشأت الأحزاب السياسية لتعبر عن اختلاف الاتجاهات والمصالح. لذلك، فإن التعددية السياسية التي تعبر عنها الأحزاب السياسية هي أساس النظام الديمقراطي.

لكن للأحزاب في بلداننا نشأة أخرى. فقد نشأت أثناء الحقبة الاستعمارية لتنظيم الأهالي وتعبئتهم من أجل الاستقلال. فما دام الهدف الوطني واحدًا فلا مبرر للتعددية السياسية وتعدد الأحزاب لأن في ذلك تقسيمًا  للصف الذي ينبغي أن يظل  واحدًا موحدًا. وهذا ما يفسر وجود حزب كبير إبان الحركات الوطنية كحزب الوفد في مصر، والحزب الدستوري في تونس وحزب الاستقلال في المغرب، والتي نظرت إلى الأحزاب الأخرى على أنها مجرد تشتيت للوحدة الوطنية. وقد ورثت دولة الاستقلال هذا النفور من التعددية، وهو ما يفسر هيمنة الحزب الوحيد، حزب الدولة وزعيمها.

إلا أن الأحزاب -حتى في الدول العريقة في الديمقراطية- تمر اليوم بأزمة وجود، وذلك بسبب ثورة الاتصالات وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي، والتي أضعفت، دور الأحزاب في التأطير السياسي للمواطنين، والإعداد للانتخابات، وتعيين المترشحين وإدارة الحملات الانتخابية، فأصبحت وسائل الاتصال الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي تنافسها في هذا الدور وبالتالي عملت على إضعافها.

ثم إن محاسبة النواب كانت موسمية تتم إبان المواعد الانتخابية. أما اليوم ومع وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أصبحت هذه المحاسبة تتم يوميًّا وفي أي وقت، هذا مع تضاؤل الثقة في النظام النيابي ووساطته.

كما أضرت وسائل التواصل الحديثة وشبكاته الاجتماعية بالصحافة المِهنية المستقلة، والتي هي ركن من أركان الديمقراطية. فالعديد من الصحف والمجلات قد توقف، وتضاءلت المبيعات والاشتراكات، وفقَد كثير من الصحفيين مهنتهم، وانتشر الزائف من الأخبار وهزُل مستوى الآراء والتعليقات، ونصّب أي واحد أمام حاسوبه نفسه صحافيًّا ومحلّلًا ومعلّقًا على حساب الصحفيين المهنيين والمعلّقين الاختصاصيين، هذا في الوقت الذي تعقّدت فيه قضايا الاقتصاد والمجتمع والعلاقات الدولية، فمن بين المليارين والنصف من مستعملي الفيسبوك، فإن الثلثين يتداولون  أكثر من مئة مليار خبر أو تعليق صحيحة كانت أم  زائفة، وبأكثر من مئة لغة.

لقد قيل إن ثورة الاتصالات قد دشنت أخيراً عصر الديمقراطية المباشرة، وقد أزالت الوساطات، فلا وساطة للأحزاب السياسية ولا لصحافة مهنية ولا لنخب المعرفة والسلطة والمال، وإن  الشعب أصبح يعبّر مباشرة بوسائل التواصل الحديثة عن آرائه وانتقاداته ومطالبه. هي إذن الديمقراطية المباشرة، وقد هلّ هلالها. ألمْ يرفع أصحاب السترات الصفراء في شوارع فرنسا وقد حشدتهم شبكات التواصل مطلب الديمقراطية المباشرة؟

المفارقة هي أنه في الوقت الذي أصبحت فيه قضايا الاقتصاد والسياسة والمجتمع أكثر تعقيدًا فهو نفسه الوقت الذي أصبح فيه أي كان بحاسوبه يُدلي فيها بدلوه، والحال أن ما يصدر عن الحواسيب لا يحمل سوى ما يحمّله لها مستعملوها من حيث مستواهم في المعرفة والخبرة، وأيضًا بحسب أخلاقياتهم.

لقد أنزلت وسائل الاتصال الحديثة السياسية إلى الشارع. لكنه شارع منفلت تسوقه العواطف المندفعة والظرفيات المتقلبة دون بدائل واضحة متوافق عليها. وهذا يسري على الانتفاضات التي ألهبتها شبكات التواصل في بلدان كلبنان والسودان والجزائر، والتي قامت ضد الاستبداد والفساد تطالب بإسقاط النظام دون بدائل، ولا قيادات ولا خطة طريق متوافق عليها للانتقال الديمقراطي.

 

الشبكات والشعبوية

اقترن انتشار شبكات التواصل الاجتماعي وانتشار شيوعها بصعود الشعبويات في مختلف بلدان العالم، والتي تعمل على تحطيم الوسائط، وسائط النخب والنظام النيابي والأحزاب السياسية والصحافة المهنية.

لقد ارتدت الشعبوية خاصة في بلدان الغرب إلى وطنيات متعصّبة، ترفض العولمة وتعادي المهاجرين وسلالتهم خاصة المسلمين منهم. فهي ترى في العولمة عدوانًا على السيادة الوطنية وتهديدًا للاقتصاد الوطني بإغراقها الأسواق الوطنية بالسلع الأجنبية، وترحيل الرساميل والشركات الوطنية إلى الخارج.

حين كان الغرب يتحكم في معظم اقتصاد العالم كان يضغط من أجل فتح الأسواق لتصدير بضائعه وجلب المواد الأساسية لمصانعه. كان إذن هو الداعي والضاغط للفتح والانفتاح. أما اليوم، فإن حركاته الشعبوية تدعو إلى الانغلاق والتحصين لمواجهة العولمة وزحف المهاجرين خاصة المسلمين الذين ترى فيهم تهديدًا لقيم الغرب ومؤسساته.

ديمقراطية دون وساطة؟

تفاءل المتفائلون ببزوغ عصر الديمقراطية المباشرة بفضل ثورة الاتصالات التي حطمت الوسائط بين الشعب وديمقراطيته. لكن الذي حصل في عصر ثورة الاتصالات هذا هو تراجع الديمقراطية غربًا وشرقًا فأسفر الاستبداد عن وجهه بلا عُقد ولا حرج. ثم إن الحشود التي أخرجتها وسائل التواصل الحديثة إلى الشارع وقفت عند الاحتجاج في مواجهة الأنظمة الاستبدادية دون خريطة طريق للانتقال الديمقراطي.

لقد استبشر الناس خيرًا إبّان انتفاضات الربيع العربي، وقيل إن الديمقراطية التي ظلت عصيّة على المنطقة العربية ها هي رياحها تهب عليها أخيرًا. لكن النتيجة هي ما نحن شاهدوه اليوم في بلدان الربيع العربي، فقد انهارت فيها الدولة وتفككت مجتمعاتها أو ارتدّت إلى نظام سلطوي.

إن المشكل لم يكن في الربيع العربي، فمطالب جماهيره في العدالة والحرية والكرامة ما تزال قائمة ومشروعة. إلا أن المشكل هو أن مجتمعات بلدان الربيع العربي لم تكن مهيأة لإسناد هذه المطالب، فلم تكن فيها قاعدة مجتمعية واسعة متشبعة بالقيم الديمقراطية وثقافتها لإنجاز الانتقال الديمقراطي.

تظلّ الديمقراطية المباشرة طوبى بعيدة التحقيق، إذ لا ديمقراطية بغير وساطة. والرهان هو أن تكون للوساطة شفافية ومصداقية. ولا ديمقراطية من غير أحزاب سياسية تترجم التعددية التي هي أمر واقع في المجتمع والسياسة، ولا ديمقراطية من غير نظام نيابي، والقضية هي تجسير الفجوة بين المواطنين ونوابهم ليكون للنظام الديمقراطي النيابي نزاهته ومصداقيته.

وما دامت ثورة الاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعية قد أصبحت أمرًا واقعًا، فإن رهان المؤسسات الديمقراطية من أحزاب سياسية وصحافة مهنية ونظام نيابي هو أن تتمكن هذه المؤسسات من استملاك وترويض وسائل التواصل الحديثة لإثبات وجودها، والقيام بأدوارها لتعزيز دمقرطة الديمقراطية.