الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

العرب والنهضة الصينية، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس أمناء منظمة النهضة العربية (أرض)

مشاركة

عادة ما يختصر الغرب النموذج الصيني في التجربة الماوية التي شكلت منذ سنة 1949 تجربة خاصة في إطار الثورة الشيوعية العالمية. تأثر جيل واسع من الماركسيين العرب بفكر ماو تسي تونغ في مفاهيمه للثورة الدائمة والبديل الريفي للثورة العمالية، والتوظيف الأيديولوجي الإجرائي للحكمة الشعبية في التعبئة والتمرد. لقد اعتبرت التجربة الصينية أقرب إلى واقع المجتمعات العربية بالنسبة للماركسيين العرب الذين تحمسوا لنجاحها الباهر في التنمية الاقتصادية والعلمية.

ولقد بدأت التجربة الصينية في مرحلة الإصلاحات التي تمت في عهد الرئيس دينغ شياو بنغ (1978-1997) تثير اهتمامًا مغايرًا في الفكر العربي، في سياق مقاربات الحداثة البديلة عن السردية الغربية، باعتبار أن الصين حققت رهان التحديث والريادة ضمن مقوماتها التراثية والمجتمعية الخاصة.

في الحالتين، ظل اطلاع الفكر العربي بخصوص التجربة الصينية الحديثة والمعاصرة محدودًا وهشًّا، يتأرجح بين البحث في خصوصية الماركسية الصينية التي نجحت في الجمع بين المركزية الحزبية الأحادية واقتصاد السوق الحر، والبحث في الجذور الثقافية والمجتمعية البعيدة (الكونفوشيوسية) للنهضة الصينية من حيث هي تفنيد حي لقانون التطور التاريخي الناظم للحداثة الغربية.

لا يعرف الكثير عن ظروف انتقال المجتمع الصيني إلى الحداثة، الذي ترمز إليه ثورة 1911 تحت قيادة الزعيم الوطني المعروف سن ياتسن الذي ألغى أكثر من ثلاثة قرون من حكم سلالة تشينغ وأعلن إنشاء الجمهورية الصينية الحديثة .

ترجع الأدبيات الغربية مسار النهضة الصينية الحديثة إلى حروب الأفيون التي بدأت سنة 1839 ضد بريطانيا وانتهت 1860 بهزيمة الصين أمام القوى الغربية. لقد نتج عن هذه الهزيمة انفتاح المجتمع الصيني قسريًّا على الثقافة الغربية الوافدة، وانطلاق حركة واسعة لنشر الأفكار الحداثية الجديدة عن طريق التعليم، والترجمة والصحافة.

لقد اتجه مشروع النهضة الصينية أساسًا في اتجاه تحديث المؤسسات والنظم العسكرية والإدارية للدولة بجعل البلاد أكثر قوة وتمكنًا  (tuqiang)واعتمدت النخب الإصلاحية نموذج “التحديث الياباني” (ثورة الميجي) الذي كان المسلك الأساسي لنهوض الصين باعتبار قوة الوشائج الرابطة بين المجتمعين والثقافتين. في هذا السياق، كان التحول الأكبر هو تخلي الصين عن الكوسمولوجيا التقليدية في تصورها الدائري للزمن، لصالح التصور الخطي الممتد (jinhua) الذي هو مرتكز الزمنية التطورية للتقدم الإنساني.

لقد كان انتصار اليابان على الصين في حرب 1905 التي تعرف محليًّا بحرب “جياو”jiawu  زلزالًا كبيرًا في تاريخ الإمبراطورية الصينية، لما أدى إليه من اختلالات خطيرة في مركزية دور الصين النشط والمحوري في آسيا الشرقية. لقد انعكست الهزيمة في سلسلة متصلة من الثورات والقلاقل أضعفت النظام الإمبراطوري الصيني وفرضت إصلاحات جذرية على مختلف الأصعدة السياسية والمجتمعية.

وإذا كانت الثورة الشيوعية عام 1949 شكلت قطيعة كبرى في تاريخ الصين المعاصرة، إلا أنها كانت من وجه آخر لحظة امتداد في مسار الحداثة الصينية، بخصوصيتها المتمثلة في التأليف بين التقاليد التراثية والحضارية المحلية، وإحدى النزعات التاريخانية الثورية الغربية (الماركسية).

لقد عاد الحديث بقوة في السنوات الأخيرة حول الجذور الحضارية للحداثة الصينية، انعكاسًا للنقاش الداخلي المتزايد في المجتمع الصيني ذاته حول الإشكالية نفسها .

في هذا الباب، نشير إلى جملة من الأعمال المهمة التي تناولت الخلفيات التاريخية والنظرية للنهضة الصينية المعاصرة، ومنها دراسات “آن شنغ” و”فرانسوا جليان” التي انطلقت من خلفيات فلسفية رصينة .

لقد تعرضت هذه الدراسات إلى الزمنية الطويلة للنهضة الصينية في اختلاف مقوماتها الفكرية والمجتمعية التي لم تمنع قيام إحدى أهم التجارب الحداثية التي أصبحت تنافس الهيمنة الأمريكية في المجالات الصناعية، والتقنية والاقتصادية.

فإذا كان تاريخ الأفكار يربط بقوة بين الحداثة الأوروبية والتراث المسيحي في مفاهيمه للذات والتاريخ والكونية، وتصوره للمفارق والمطلق الذي هو الخلفية البعيدة لقيمة الحرية من حيث هي خروج من نظام الطبيعة الضروري، فإن الثقافة الكونفوشيوسية تقوم على مرتكزات مغايرة. في مقابل عقيدة المفارقة والإطلاق، تتبنى المعتقدات الصينية الأصلية مفهوم المحايثة ضمن تصور دائري مغلق للطبيعة وملتصق بها، وفي مقابل الزمنية الغائية الممتدة تؤمن بالتحول الذي لا بداية له ولا نهاية ولا اتجاه، وفي مقابل الحرية والذاتية تكرس معايير النظام والتكيف. ومن هنا ندرك غياب قيمة الحرية بمفهومها الذاتي من المعجم العقدي الصيني التقليدي، بما يفسر استثناء النموذج الصيني في مجال الحرية السياسية والديمقراطية التعددية.

السؤال المطروح هنا هو هل تشكل تجربة التحديث التقني والاقتصادي الناجحة دون آثارها الليبرالية السياسية حالة خاصة بالصين؟ أم هي دليل واضح على فك الارتباط الممكن بين الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية؟

لقد طرح هذا الإشكال في الفكر الصيني بعد نهاية الحرب الباردة في إطار الجدل بين اتجاهين: اتجاه راديكالي تنويري ينزع إلى استكمال الإصلاحات الاقتصادية بإجراءات الانفتاح السياسي واستنبات الديمقراطية الفردية، واتجاه محافظ متشبث بالتقاليد الحضارية والتراثية الأصيلة التي تقوم على الانضباط الأسري والهويات الجماعية.

ما تشهده الصين راهنًا هو تجاوز هذا الجدل في الخطاب الرسمي الذي يتبنى بوضوح مفهوم “رأسمالية السوق” التي يطلق عليها في الأدبيات الغربية عبارة “الليبرالية التسلطية” التي هي الوجه الآخر للديمقراطيات غير الليبرالية في أوروبا الشرقية وفي بعض البلدان الأمريكية والآسيوية التي تحترم فيها شكليات التنظيم السياسي الحر والانتخابات التنافسية خارج مقتضيات الديمقراطية الليبرالية .

وكما سحرت الصين الماوية عددًا هامًّا من اليساريين العرب، نلمس اليوم تحمسًّا كبيرًا لليبرالية المحافظة في عهد الرئيس شي جين بينغ الذي يبشر بنهاية عصر الهيمنة الغربية وبالعصر الصيني الجديد. ما يهم الكتاب العرب المبشرين بالنموذج الصيني الجديد هو إعادة الاعتبار للتراث القومي والحضاري حتى في مراجعة تفسير وتطبيق الأيديولوجيا الرسمية للدولة (الماركسية الشيوعية).

وإذا كان من الصحيح أن تجربة النهوض الصيني الراهنة تحمل دروسًا مهمة للعرب، إلا أن هذا النموذج بخصوصياته التاريخية والحضارية غير قابل للتصدير ولا الاستيحاء. ومن هنا نخلص إلى القول إن طريق النهضة العربية لا يمر بالصين .