الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

العرب والنهضة الهندية، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس أمناء منظمة النهضة العربية (أرض)

مشاركة

على خلاف التجارب الإيطالية والألمانية واليابانية، ليست التجربة الحداثية والنهضوية الهندية بالغريبة على العالم العربي. فمن المعروف أن الدولة المغولية في شبه القارة الهندية شكلت إلى جانب الدولتين العثمانية والصفوية، إمبراطورية إسلامية قوية ومكينة لم تتفكك إلا مع الاستعمار البريطاني.

بيد أن النموذج الهندي في النهوض والتحديث استوقف بقوة المفكرين والسياسيين العرب منذ خمسينيات القرن الماضي، من مناحٍ متعددة من بينها تجربة المقاومة السلمية في عهد المهاتما غاندي، والديمقراطية الناجحة والمستقرة في مجتمع شديد التنوع القومي والديني وشديد التراتبية الطبقية، فضلًا عن النجاح الباهر في النهوض الاقتصادي، والتحديث التقني، والإنتاج الصناعي المدني والعسكري.

لقد هيمنت دومًا على الوعي العربي المقارنة بين الهند الناهضة، والبلدين المسلمين المتسمين بالتخلف اللذين انفصلا عنها: الباكستان وبنغلاديش.

لم يُكتب الكثير في الأدبيات العربية حول التجربة الهندية، وظل الاهتمام بها هشًّا، لم يتجاوز ما حدث في حقبة الستينيات من شراكة قائمة بينها مع عدد من الدول العربية الرئيسة في إطار حركة عدم الانحياز.

غاب السؤال الأساسي حول مقومات وأسباب النهوض، والتحديث الاقتصادي والتقني والاجتماعي في سياق ديني وثقافي شديد الاختلاف والتمايز عن السياق الغربي، وكيف نجحت “أكبر ديمقراطية في العالم” في احتواء أسباب وجذور الحروب الأهلية والصراعات الداخلية الكامنة؟

يربط مؤرخو الهند المعاصرة لحظة التحديث بما عرف بالنهضة البنغالية في القرن التاسع عشر، ويتعلق الأمر بحركة فكرية وثقافية وأدبية ودينية، تأثرت بفلسفات التنوير الأوروبية، وتبنت نزعة عقلانية متحررة ومتمردة على الأنساق الاجتماعية التسلطية، والتأويلات الجامدة للتراث الديني والحضاري الهندي.

في كالكوتا، تأسست عام 1828 حركة الإصلاح الديني المعروفة بـ”براهمو ساماج” (أي مجتمع الرب) على يد المفكر الإصلاحي رام موهان روي (توفي 1833)، وقد تميزت بنزوعها إلى تقديم نسخة إنسانية وتنويرية من الهندوسية، ترفض العقلية التراتبية وإقصاء المرأة من الحياة العامة، وتدعو إلى التسامح الديني والانفتاح على المعتقدات والأفكار الأخرى. ترفض حركة “براهامو ساماج” سلطة رجال الدين، ولا تؤمن بعقيدة التناسخ والتجسد، ولا تعترف بنظام الطبقات المغلقة وترى وحدة الروحانيات المختلفة في الإيمان بقوة كونية مطلقة مشتركة بين كل البشر.

ومن أبرز من طور هذه الأفكار الشاعر المعروف روبندرونات طاغور الذي ترجمت أهم أعماله الأدبية إلى اللغة العربية.

اصطدمت حركة النهضة البنغالية بالمؤسسة الدينية التقليدية، وظهر اتجاه فكري عريض يبشر بحداثة نابعة من الثقافة الهندية ومن مخزونها التراثي والمجتمعي. ولقد طرح بحدة سؤال العلاقة الممكنة بين الفلسفات الروحانية والأخلاقية الهندية النابعة من الهندوسية بصفتها “تقديسًا للعدم” حسب عبارة الفيلسوف الفرنسي فكتور كوزين.

فالنص الأساسي المعتمد في الهندوسية “البهغافاد جيتا” Bhagavad–gita (أي الأنشودة الإلهية)، يدعو إلى العزوف عن العالم من أجل الفناء في الطبيعة وتسديد السلوك الشخصي وفق نظامها، طلبًا للخلاص الذي لا يكون إلا بنبذ العقل والإحساس والذوبان في المطلق، من خلال سلم تراتبية دقيقة تتجلى في النظام الاجتماعي والسياسي (varna)، الذي تغيب عنه قيم الحرية والمساواة الإنسانية.

بيد أن الفكر الهندي الحديث قد استطاع بالفعل دمج قيم الحداثة السياسية في هذا النسق الروحاني والاجتماعي الذي ظل حيًّا وفاعلًا في الثقافة العامة المشتركة. لقد بيّن الفيلسوف والاقتصادي الهندي المعروف أمارتيا سن في كتابه حول الهوية التاريخية والثقافية الهندية:

، (The Argumentative Indian: Writings on Indian History, Culture And Identity)

كيف استطاعت الهندوسية الجديدة دمج واستيعاب قيم التنوير والتحديث بفضل الطبيعة الحوارية المنفتحة للتقليد البراهامي الذي لا يمكن اختزاله في معتقدات روحية أو سلوكية. ما يقصده سن هو رفض أن تكون قيم الديمقراطية والحرية مفاهيم غربية خالصة، بل إنها حاضرة بصفتها معايير إنسانية كونية في التراث الهندي ولو من منطلقات ومحددات مغايرة للتجربة الأوروبية.

بيد أن العامل الروحي الديني شكل أساس جدل أيديولوجي وسياسي واسع بين تصورين متمايزين للهوية القومية الهندية:

1.     التصور الذي اعتمده حزب المؤتمر الهندي الذي تأسس سنة 1885 وقاد حركة التحرر الوطني وارتبط بزعيم الاستقلال وباني الدولة الحديثة جواهر نهرو وحكم البلاد عقودًا طويلة. وهو الذي بلور مفهوم الأمة الموحدة ذات الجذور والانتماءات العقدية والطائفية المتعددة، وتبنى قيم العلمانية، والديمقراطية الانتخابية والاشتراكية الاقتصادية.

2.     التصور الذي اعتمده التيار القومي الهندوسي المحافظ الذي يمثله اليوم حزب “بهاراتيا جاناتا” (حزب الشعب الهندي) الذي تأسس سنة 1980 على خلفية التيار القومي الشعبوي الذي يتبنى الهوية الهندسية النهضوية للدولة، ولو على حساب الأقليات الكبرى التي يتشكل منها المجتمع الهندي وبصفة خاصة مكونه الإسلامي.

وعلى الرغم من سيطرة حزب بهاراتيا جاناتا على الحكم منذ نهاية التسعينيات، إلا أن سياساته القومية المتعصبة لم تهدد عمليًّا الديمقراطية الهندية التي ما تزال مستقرة ومتجذرة، وإن كانت التساؤلات قائمة حول مآلات الخطاب الوطني المتعصب للحزب الحاكم على تماسك وانسجام الهوية القومية الهندية.

إن التجربة الهندية تستوقف الفكر العربي في مستويات عديدة ،من بينها العلاقة بالمخزون التراثي الذي خضع لعملية تأويل واستيعاب معقدة سمحت ببناء سردية حداثية هندية، تتشبع بالتقليد المحلي وتستلهم رؤيته للعالم دون اتخاذه ملاذًا للانفلات من التاريخ والواقع الكوني الحاضر.

لقد كان أكبر تحدٍ واجه الهند المعاصرة هو تشكل الأمة القومية بالمعنى الحديث، بالنظر إلى تعقد تركيبة المجتمع الهندي بمكوناته الإثنية والدينية والطبقية، ولقد سمحت النظم الديمقراطية المكيفة مع الخصوصيات المحلية في احتواء تناقضات الجسم الاجتماعي الكثيفة بما ضمن للبلاد مستوى باهرًا من السلم الأهلي، والاستقرار السياسي، والتقدم الاقتصادي والتقني.

لكن الديمقراطية الهندية لم تنجح إلا بصفة محدودة في القضاء على التمييزات والفوارق الاجتماعية المتجذرة في النسق الثقافي والقيمي والمتجسدة في الحقل الاقتصادي، في الوقت الذي تزداد فيه الخشية من خطورة سياسات القوميين الهندوس على وحدة وتماسك الأمة الهندية.