الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

العرب وتجديد الفكرة الأفرو آسيوية، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

عندما أصدر المفكر الجزائري مالك بن نبي سنة 1956 كتابه حول الفكرة الأفرو آسيوية، كان ذلك في خضم الزخم الذي خلفه مؤتمر باندونغ المنعقد في نيسان/أبريل سنة 1955.

كان السياق الذي تنزلت فيه الفكرة هو حقبة حركات التحرر الوطني الإفريقية والآسيوية التي تمحورت حول الثورات الوطنية في الهند، وأندونيسيا والعالم العربي.

كانت مصر الناصرية طرفًا محوريًّا في مبادرة باندونغ بالتي شاركت فيها 29 دولة، بالإضافة إلى ثلاثين حركة تحرر وطني من بينها جبهة التحرير الجزائرية، والحزب الدستوري الجديد التونسي وحزب الاستقلال المغربي.

كثيرًا ما يخلط بين الفكرة الأفرو آسيوية وحركة عدم الانحياز التي كانت امتدادًا لهذه الفكرة ولم تبرز بقوة إلا في المؤتمرات اللاحقة وبصفة خاصة في مؤتمر بلغراد سنة 1961.

ترجع جذور ديناميكية التحالف الإفريقي الآسيوي إلى نهاية أربعينيات القرن العشرين، بخروج الاستعمار البريطاني من شبه القارة الهندية سنة 1947 الذي نجم عنه نشوء أربع دول آسيوية جديدة مستقلة هي: الهند، وباكستان، وبورما وسيلان (سيرلانكا). وفي سنة 1949، استقلت أندونيسيا بدعم وافر من الدول الآسيوية التي التأمت في نيودلهي لهذا الغرض بمشاركة البلدان الآسيوية البيضاء مثل أستراليا ونيوزيلندا، بالإضافة إلى مصر وإثيوبيا.

وفي سنة 1950، تشكلت المجموعة الإفريقية الآسيوية في هيئة الأمم المتحدة التي ضمت بالإضافة إلى الهند وأندونيسيا جل الدول العربية المستقلة أوانها (السعودية، ومصر، والعراق، ولبنان، وسوريا واليمن)، بالإضافة إلى دولتين من إفريقيا جنوب الصحراء هما ليبريا وإثيوبيا.

بيد أن الفكرة الأفرو آسيوية لم تكن لتبرز بقوة إلا بعد ثورة 23 تموز/يوليو 1952 في مصر ووصول الزعيم الغاني كوامي نكروما إلى السلطة سنة 1957، بحيث تناغمت النزعة القومية العروبية لدى جمال عبد الناصر مع الأيديولوجيا الزنجية الإفريقية لدى نكروما، والتيار الوطني اليساري الذي يتزعمه جواهر لال نهرو في الهند وسوكارنو في أندونيسيا.

وقد تمثل الإسهام الأكبر للفكرة الأفرو آسيوية في ثلاثة مرتكزات أساسية هي: دعم ديناميكية التحرر الوطني في البلدان الأفريقية والآسيوية بما نتج عنه استقلال عموم البلدان المستعمرة أوروبيًّا، تبني مفهوم الثورة الاجتماعية والثقافية الجذرية لإخراج بلدان المنطقتين من التخلف والانحطاط، والبحث عن موقع فاعل للكتلة الأفرو آسيوية في النظام الدولي وفق تعبير “العالم الثالث” الذي ساد لاحقًا.

وإذا كان الهدف الأول تحقق إلى حد بعيد، فإن المنعرج الاشتراكي للثورات الاجتماعية قد أفضى إلى خيارات سياسية واقتصادية فاشلة عمومًا بما انعكس في الأنظمة الحزبية الأحادية والقمع السياسي والتخطيط الاقتصادي المتعثر، في حين أخفق محور باندونغ في بناء قطب إستراتيجي فاعل في الصراع الدولي رغم رفع شعار عدم الانحياز الذي كان في الغالب غطاء لصراعات الحروب الباردة في المجال الإفريقي الآسيوي.

ومع نهاية الستينيات، بدا أن الفكرة الأفرو آسيوية فقدت بريقها وزخمها بخروج زعمائها الأربعة (جمال عبد الناصر، ونهرو، وسوكارنو ونكروما) من الميدان السياسي، مع استفحال الصراعات الإقليمية داخل الدائرة الإفريقية الآسيوية ذاتها (الحرب الهندية الصينية، والهندية الباكستانية…).

في الفكر السياسي العربي، لم تحظ الفكرة الأفرو آسيوية باهتمام يذكر خارج الأدبيات الناصرية، وبصفة خاصة كتاب “فلسفة الثورة ” الصادر عام 1954، حيث ينص جمال عبد الناصر على ثلاث دوائر إستراتيجية متكاملة لثورة 23 يوليو هي: الدائرة العربية، والدائرة الإفريقية والدائرة الإسلامية.

أما مالك بن نبي الذي تحمس للفكرة وكتب حولها كتابه المذكور الذي صدر في البداية باللغة الفرنسية قبل ترجمته العربية، فقد ذهب بها إلى التصور الروحي الحضاري، مراهنًا على مؤتمر باندونغ في بناء نظام أخلاقي جديد للعالم، يجمع بين الهندوسية والإسلام، ويكرس منزلة العالم الإسلامي الحضارية بصفته قارة وسيطة بين أفريقيا وآسيا وأوروبا، ويجسد المفهوم الثقافي الموسع للإسلام من حيث كونه “القاسم المشترك بين كل الثقافات التي تشكل الخارطة الروحية للعالم”.

غني عن البيان أن مقاربة مالك بن نبي ظلت مجرد دعوة طوبائية بعيدة عن الواقع، وإن واكبها بعض المفكرين العرب في مرحلة لاحقة وحسب خلفيات مختلفة في سياق الاستفادة من تجربة النهوض الآسيوي والتوجه شرقًا في البناء التنموي والتحديثي (أنور عبد الملك في كتابه ريح الشرق الصادر سنة 1983).

في العقود الأخيرة، افترقت سبل العرب والأفارقة، وخرج العرب من المنظور الإستراتيجي الآسيوي، وانهارت حركة عدم الانحياز مع نهاية الحرب الباردة.

إلا أن بعض الدعوات ظهرت بقوة في السنوات الأخيرة مطالبة بإحياء وتجديد الفكرة الأفرو آسيوية وفق تحديات واستحقاقات المرحلة الحاضرة.

قيل الكثير عن تكامل وتداخل العالمين العربي الإفريقي، وأظهرت الدول الآسيوية الصاعدة وبصفة خاصة الصين والهند اهتمامًا جديدًا بالشرق الأوسط الذي هو مجالها الحيوي وامتدادها الإستراتيجي، وشاع في الأدبيات الجيوسياسية الراهنة مقولات التحليل الحضاري وإمكانات التحالف بين الحضارة الإسلامية والحضارة الهندوسية الصينية وفق أطروحة هنتغتون الشهيرة.

إلا أن كل هذه المؤشرات لا تصل إلى حد المرجعية التأسيسية الجديدة للفكرة الأفرو آسيوية رغم الحاجة الموضوعية إلى إعادة الاعتبار لها.

ما يتعين التنبيه إليه هو أن الفكرة الأفرو آسيوية في منطقها الجديد لا بد من أن تراعي التحولات الإستراتيجية الجديدة التي أفرزت معادلة قوة غير مسبوقة في المحاور الثلاثة التي يرتبط بها النظام الإقليمي العربي وهي: شرق المتوسط الذي يربط العالم العربي بامتداداته الأوروبية، وغرب آسيا الذي هو خط الانفتاح على ضفة المحيط الهندي وبلدان آسيا الوسطى المسلمة، وحوض البحر الأحمر بخطوطه الممتدة إلى منطقة الساحل حيث التداخل الكثيف في المصالح والاستحقاقات الأمنية بين العالم العربي وإفريقيا من شرقها إلى غربها.

لا يمكن للحضور الإستراتيجي العربي في المستقبل أن يستغني عن هذه الدوائر الثلاث، ولا شك في أن أولى خطوات النجاح في تلك الرهانات القادمة هو ترميم وتنشيط الفكرة الأفرو آسيوية التي هي الأفق الطبيعي للمشروع النهضوي العربي في ما وراء مقوماته المرجعية والمعيارية الذاتية.