الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

العرب ونموذج الانتقال السياسي في البرتغال، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

على الرغم من تشابه الأوضاع السياسية في البرتغال قبل سنة 1974 والنظم الاستبدادية الأحادية التي عرفها العالم العربي الحديث، وعلى الرغم من تشابه المسار الانتقالي في البرتغال والتحولات التي عرفها العديد من البلدان العربية في العشرية الماضية، لا تزال التجربة البرتغالية مجهولة إلى حد بعيد بالنسبة للفكر السياسي العربي.

حدثت في البرتغال ثورة ديمقراطية كبرى عرفت بثورة القرنفل (Revolução dos Cravos) في 25 نيسان/أبريل 1974 أنهت أطول نظام ديكتاتوري في أوروبا، هو نظام “الدولة الجديدة “estado novo الذي يرجع إلى سنة 1926. ارتبط هذا النظام بأستاذ الاقتصاد الجامعي أنطونيو أوليفيرا سالازار الذي تولى من سنة 1928 إلى سنة 1930 حقيبة الاقتصاد وكان الرجل القوي في الحكومة اليمينية المتطرفة، قبل أن يترأس مجلس الوزراء سنة 1932 ويشكل على امتداد 36 سنة نظامًا تسلطيًا شديد القمع والانغلاق .

كان سالازار قريبًا من النظم اليمنية المتطرفة التي حكمت ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا ما بعد الحربين، وقد حكم باسم الحزب الواحد (حزب العمل الوطني الشعبي) وفق دستور 1933 الذي حرّم التعددية الحزبية، والنقابية، وحرية التعبير وحقوق المعارضة السياسية السلمية .

ولقد استطاع نظام سالازار الاستمرار بعد انهيار النازية والفاشستية في أوروبا نتيجة للدعم الغربي في مواجهة “الخطر الشيوعي”، فكانت البرتغال عضوًا مؤسسًا في حلف شمال الأطلسي سنة 1945، وشريكًا أساسيًّا للولايات المتحدة وبريطانيا. وفي سنة 1968 خلف سالازار أستاذٌ جامعيٌ آخر هو مارسيلو كايتينو الذي كان سابقًا وزيرًا للمستعمرات، فاستمر على نهج سلفه، مستندًا إلى القوات الأمنية الخاصة، والكنيسة الكاثوليكية، والقوى المالية والصناعية المتنفذة.

بدأت نذر انهيار النظام في بداية السبعينيات نتيجة لعاملين أساسيين هما الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الحادة التي ضربت البلاد وأدت إلى تنامي الموجة الاحتجاجية العمالية والفلاحية، وتأثيرات حركات المقاومة التحررية في أفريقيا ضد الاستعمار البرتغالي (في أنغولا، وغينيا بيساو، وجزر الرأس الأخضر والموزمبيق).

وفي نهاية سنة 1973 تشكلت حركة عسكرية من الضباط الشباب باسم “حركات القوات المسلحة” استطاعت القيام بانقلاب ناجح في 25 نيسان/أبريل 1974، سرعان ما انضم لها عدد من كبار الضباط انتظموا في مجلس للخلاص الوطني يرأسه الجنرال أنطونيو دي سبينولا الذي كان في السابق قائد جيش الاحتلال في غينيا بيساو قبل إقالته من هذه الوظيفة العسكرية الأساسية.

ومع أن الحركة العسكرية كانت في البداية محدودة الأهداف والبرامج، ألا أنها تحولت منذ الوهلة الأولى إلى ثورة شعبية عارمة من أجل الحرية السياسية والحقوق الاجتماعية في مواجهة الاستغلال الرأسمالي وقبضة الأجهزة الأمنية.

وهكذا دخلت البلاد في مرحلة طويلة من عدم الاستقرار السياسي استمرت لمدة سنتين، كادت تودي بها إلى الحرب الأهلية الشاملة. تشكلت هياكل محلية مستقلة للحكم في عدة مدن كبرى، وسيطر العمل على كثير من المصانع، وتتالت الحكومات الائتلافية، وبرزت التناقضات بين الطبقة السياسية التي يسيطر عليها اليسار والمؤسسة العسكرية.

وفي 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1975، حدثت ثورة مضادة من أجل كبح ديناميكية التحول الثوري، لكنها فشلت تحت وقع الحركة الاحتجاجية العارمة المدعومة من الحركة العسكرية .

ومع بداية نيسان/أبريل 1976 تشكلت جمعية تأسيسية مشتركة بين الجيش والقوى السياسية أصدرت أول دستور ديمقراطي للبلاد يحمل سمتين هامتين هما: النص على الطبيعة الاشتراكية للنظام السياسي، وإشراك الجيش في القرار من خلال دور “مجلس الثورة” العسكري الذي هو الضامن للمؤسسات الديمقراطية وله سلطة إلغاء القوانين والقرارات الحكومية (ألغيت هذه الترتيبات في الإصلاح الدستوري سنة 1982).

ومنذ سنة 1976 تتالت الانتخابات التعددية الديمقراطية في البرتغال دون تعثر، وهيمن اليسار في غالب الأحيان على المجالس المنتخبة والحكومات، وتعززت الديمقراطية البرتغالية بعد انضمام البلاد للسوق الأوروبية المشتركة سنة 1986.

ويمكن أن نجمل خصوصيات المسار الانتقالي الديمقراطي في البرتغال في سمات ثلاث كبرى:

1.     الدور المحوري للمؤسسة العسكرية في قيادة عملية التغيير، بحيث كان انقلاب 1974 هو الفصل الأساسي الممهّد للحركة الثورية العامة في أبعادها الاحتجاجية الواسعة .

2.     تضافر نشاط الحركة التحررية في المستعمرات الإفريقية ونشاط القوى السياسية والمدنية في الداخل، بحيث تساوى مطلبا الانتقال الديمقراطي والاستقلال الوطني للبلدان المستعمرة.

3.     الطابع اليساري القوي للحركة الاحتجاجية التي قادتها التنظيمات الشيوعية، والماركسية، ومجموعات اليسار الراديكالي والحركات العمالية والنقابية المناهضة لنمط الإنتاج الرأسمالي.

من بعض الأوجه، تبدو التجربة البرتغالية قريبة من الثورات الاجتماعية والأيديولوجية التي عرفها العالم العربي منذ الخمسينيات، باعتبار دور المؤسسة العسكرية وطبيعة المشروع التحرري من الاستعمار والطابع اليساري لعملية التغيير. ومن هنا ندرك سمات التشابه بين ثورة القرنفل البرتغالية وثورة الضباط الأحرار في مصر سنة 1952 وثورة التحرير الجزائرية (1954-1962).

بيد أن عوامل الاختلاف والتمايز جلية بين المسارين، بخصوص طبيعة المطلب الديمقراطي وعملية التحول السياسي التي أفضت إلى التعددية السياسية والحريات العامة في البرتغال، على عكس ما حدث في العالم العربي من قيام أنظمة عسكرية تسلطية هي أقرب إلى عهد سالازار قبل ثورة القرنفل .

كما أن بعض التشابه ظاهر بين التجربة البرتغالية وأحداث الربيع العربي، خصوصًا في البلدان التي انحاز فيها الجيش لمطالب الحركة الاحتجاجية الشعبية، كما هو الحال في تونس ومصر. بيد أن خصوصية البرتغال التي قد تفسر نجاح تجربتها هو الحلف القوي الذي قام بين القيادات العسكرية والقوى السياسية وتم تضمينه مرحليًّا في النظام الدستوري، على عكس ما حدث من تنافر وتضارب في الرؤية والمصالح بين الطرفين في الساحات العربية .

ولقد استطاع اليسار البرتغالي الذي كان في جانب كبير منه منحازًا للأطروحات المآوية، والتروتسكية الراديكالية، التكيف مع عملية التغيير ومع قوالب التعددية الديمقراطية، فكان دوره حاسمًا في نضج التجربة ونجاح مسار التحول، وهو ما غاب كليًّا في الساحات العربية.

في كل هذه الجوانب، تكتسي التجربة البرتغالية أهمية خاصة، وتقدم دروسًا مفيدة وثرية للعالم العربي .