الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الفكرة القومية والرابطة الكونية، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

ظهرت النزعة الكونية المعروفة بالكوسموبولتية (من الكوسموس أي الكون) في الفلسفة الرواقية في العصر الروماني أساسًا، وكانت تعني عند سناك ومارك أوريل القول بنظام أخلاقي مشترك بين البشر قائم على العقل، فإذا كان كل إنسان ينتمي إلى مجموعته الخاصة المحلية، إلا أنه “مواطن عالمي”، ذلك أن انتماءه للأسرة البشرية الكبيرة هو مصدر التزاماته الأخلاقية وقيمه المعيارية.

ظهرت الفكرة الكوسمبولوتية مجددًا لدى فلاسفة الأنوار في بحثهم عن مفهوم للسلم الأزلي على أساس عدالة مطلقة، وإن اختلفوا في الطابع المؤسسي لهذه الرابطة الكونية في مقابل نموذج الدولة القومية السيادية، فذهب بعضهم إلى المطالبة بدولة عالمية واحدة واكتفى الآخر بصيغة الفيدرالية المرنة بين دول وطنية مستقلة عن بعضها البعض.
في هذا السياق، عرفت أطروحة كانط حول القانون الكوسمبولوتي النابع من الاستخدام العمومي للعقل وحرية النقد، بحيث يمتزج القول بكونية العقل البشري بتأكيد عالمية الرابطة الإنسانية في عالم متداخل ومترابط الأرجاء. إلا أن كانط لم يذهب بعيدًا في مطالبته بالقانون الكوسمبولوتي واكتفى برده إلى مجرد حق الضيافة الكونية وواجب عدم الاعتداء على الغير.

بيد أن الفكرة الكونية التي تمخضت عن النزعة الليبرالية في أبعادها الإنسانية الرحبة (التي تترجم في مدونة حقوق الإنسان ذات الأولوية على التحديدات والمعايير القانونية السيادية)، اصطدمت في السياق الغربي بالفكرة القومية من حيث تجسدها في دولة معبرة عن كيان الأمة الروحي والثقافي في تميزه وخصوصيته.

لقد لاحظ أهم الفلاسفة الليبراليين المعاصرين وهو جون رولز أن مبادئ العدالة التوزيعية من حقوق المساواة الأصلية في الحريات والفرص، وحقوق التمييز الاجتماعي الإيجابي، لا تتلاءم مع فكرة المجتمع الكوني، فقلص “حقوق الشعوب” إلى واجب المساعدة عند الاقتضاء، أي فكرة التضامن في حدودها الدنيا.

إلا أن تراجع الدولة السيادية وتسارع ديناميكية العولمة بما كرست من واقع عالمي فعلي، فرضا إعادة التفكير في المسألة الكوسمبولوتية، بما برز لدى فلاسفة عديدين من يورغن هابرماس إلى الفيلسوفين الأمريكيين مارثا نوسباوم وانتوني أبياه. وفي حين أعلن هابرماس نهاية الدولة القومية معتبرًا أن القيم الليبرالية تتناسب مع الفكرة الكونية أكثر من المفهوم السيادي الوطني للمجموعة السياسية، حافظ الفيلسوفان الأمريكيان على المفهوم العقلاني الأخلاقي للكوسمبولوتية في كتاب أبياه الصادر بالإنجليزية بعنوان cosmopolitanism.

نلاحظ أنه يعرف النزعة الكوسمبولوتانية بأنها الإيمان باحترام الحياة الإنسانية وما يترتب على هذا الاحترام من أخلاق عيش مشترك بين أفراد لا يتقاسمون بالضرورة نفس القيم والمعايير والثقافات، لكنهم قادرون بأدبيات النقاش العمومي على التفاهم والترابط والتضامن. ومن هنا، يميز أبياه بين الكوسمبولوتية والنزعة الكونية، باعتبار أن الكونية تعني الاهتمام بعموم البشر من حيث كامل الأفراد من منظور الأوامر الأخلاقية الملزمة للجميع، في حين أن الكوسمبولوتية لا تخاطب الآخر من منطلق التماثل مع النفس، بل من منظور الاختلاف والتمايز.

ومع أن الفكر العربي كان سباقًا منذ الفارابي إلى بلورة التصور الكوني الإنساني للعقل، أبعد من مفاهيم أفلاطون وأرسطو، إلا أن النزعة الكونية ظلت ضعيفة ومحدودة في الخطاب العربي المعاصر.

لقد ساد في هذا الخطاب منذ خمسينيات القرن الماضي توجه إلى نقد الفكرة الكونية من زوايا مختلفة. بدأ المسلك مع الخطاب ما بعد الاستعماري الرافض لاحتكار الغرب للعالمية والحداثة والإنسانية، بما تمثله أعمال المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي، الذي لا شك أنه تأثر بكتاب “معذبو الأرض” الذي أصدره سنة 1961 الكاتب الفرنسي-الجزائري فرانتز فانون (يعتبر دعاة الفلسفة ما بعد الكولونيالية المعاصرين هذا الكتاب الوثيقة التأسيسية لمقاربتهم الفلسفية).

ولقد سادت صيغة إسلامية مؤدلجة من هذا التوجه باسم محاربة “الغزو الثقافي”، تطورت لدى المدرسة القطبية لاحقًا في أطروحة “التصور الإسلامي وخصائصه” قبل أن تأخذ شكلًا أكثر أكاديمية في مفهوم عبد الوهاب المسيري للتحيز والممارسة النظرية المستقلة.

بيد أن النظريات التفكيكية الجديدة التي تأثرت بأعمال ميشال فوكو وجاك دريدا ذهبت بعيدًا بهذه النزعة النقدية للمركزية الغربية، من خلال أطروحة الارتباط العضوي بين المعرفة والسلطة، التي بنى عليها إدوارد سعيد نقده للاستشراق وتجاوزه مؤخرًا مفكر أمريكي آخر من أصل عربي هو وائل حلاق في كتابه “قصور الاستشراق”.

وعلى الرغم من الوجاهة البديهية في نقد المركزية الغربية التي تدعي احتكار الحقيقة والتاريخ والإنسانية، ورغم التأكيد على حقوق الاختلاف الثقافي والقيمي، إلا أن الفكر العربي بإحتفائه المفرط بالخصوصية وتمسكه بما أسماه محمد عابد الجابري “استقلال الذات الثقافية”، قد أضاع عمليًّا الروابط والجسور الضرورية مع العالم.

لا حاجة للتنبيه أن الكتابات الفلسفية والفكرية الكبرى في الغرب، وإن عالجت موضوعات إنسانية كونية مثل طبيعة العقل؛ وحدود المعرفة؛ وأسس الأخلاق؛ ومعايير العدالة؛ ومسالك التعقل، فإنها انطلقت من سياقاتها الثقافية والمجتمعية وإن تجاوزتها من حيث الانشغالات الفكرية. وهكذا لا يمكن اختزال “خطاب المنهج” لديكارت في الصراع مع اللاهوت الكنسي الفرنسي، ولا اختزال “للفيتان” لهوبز في نقد الاستبدادية الإنجليزية والتنظير للثورة الليبرالية الدستورية، أو اختزال هيغل في مشروع بناء الدولة القومية الألمانية على أساس فكر الثورة الفرنسية.

إن هذه الأبعاد حاضرة بقوة في الكتابات المذكورة، لكن عالجتها من منظور إنساني كوني، كما كان شأن الفارابي وابن سينا ومسكويه في تراثنا الوسيط.

للمسألة راهنًا جوانبها العملية المتعلقة بطبيعة الكيان السياسي الذي نسعى لبنائه عربيًّا، بعد أن ظهر من الجلي زيف الأطروحة الوحدوية التقليدية، وإن كان البناء القومي مشروعًا شرعيًا مفتوحًا للمستقبل.

الفكرة الكوسمبولوتية تساعدنا في تصور البدائل السياسية والمؤسسية المتاحة، وفق ما عبر عنه جان مارك فري بمقولة “السيادة المتقاسمة جيدة التنظيم” التي هي الخيار الثالث ما بين التمسك العقيم بالسيادة الوطنية والإيمان الطوبائي بالدولة العالمية الواحدة. ولا شك أن الاندماج العربي وفق هذا المبدأ الكوسمبولوتي المرن خيار واقعي وممكن.