الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الفكر العربي وأطروحة مقاصد الشريعة، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

لا شك في أن كتاب العلامة التونسي الطاهر بن عاشور “مقاصد الشريعة” الذي صدر عام 1946 وتلاه كتاب يحمل نفس العنوان للمفكر الإصلاحي المغربي علال الفاسي شكل تحولًا نَوْعِيًّا في مسار الفكر الإسلامي الحديث.

 

كانت نظرية المقاصد معروفة في التقليد الإسلامي في صيغ ثلاث معروفة: أطروحة الضرورات الخمس لدى إمام الحرمين الجويني وأبي حامد الغزالي، وأطروحة المصالح الشرعية المعللة بالعقل لدى عز الدين بن عبد السلام، ونظرية المقاصد التي بلورها الفقيه الأصولي المالكي الشاطبي في كتابه الشهير “الموافقات”. والمعروف أن الإمام محمد عبده قد اهتم بكتاب الشاطبي وعمل على نشره، وذلك ما تحقق فعلًا من خلال جهد تلميذه عبد الله دراز .

ومن الواضح أن اهتمام رائد الإصلاحية الإسلامية الأكبر محمد عبده بأطروحة المقاصد إنما يندرج في سياق منظوره التحديثي للدين بصفته رسالة، وغايات وثوابت قيمية عليا، بدل اختزاله في نصوص جامدة وأفهام متحجرة.

ولقد لاحظ بن عاشور حالة القلق الإبستمولوجي التي عانى منها الشاطبي في وضعه لنظريته في مقاصد الشريعة، متسائلًا هل تندرج في المنهج الأصولي وبصفة خاصة في مبحث القياس والتعليل فيه أم أنها منطلق علمي ومنهجي جديد وقد يكون بديلًا عن المدونة الأصولية بأكملها .

يبدو أن بن عاشور يرشح الخيار الثاني، ويعتبر أطروحة المقاصد تأسيسًا لعلم جديد لم يكن معروفًا في النظام المعرفي الإسلامي الوسيط، ولا يبدو أن الكثير من علماء الإسلام سلك نهج الشاطبي.

 

والواقع أن فكرتي التعليل بالحكمة والأخذ بالضرورة كانتا مألوفتين في الفكر الإسلامي الوسيط، ولأولاهما مسوغات كلامية معروفة لها علاقة بالجدل المعروف حول التحسين العقلي ووجوب الأصلح، والثانية من قواعد الشريعة التي توسع فيها البعض إلى حد أن الفقيه الحنبلي نجم الدين الطوفي قال بأولوية المصلحة على النص. 

 

ما أراده الشاطبي يتجاوز هذه الأفكار المتداولة المألوفة، فهو لا يخفي أن غرضه هو وضع منهج الاستثمار في الدلالات الشرعية من تأويل النص وفق ثوابته المرجعية الكونية، التي هي إطار تنزيل الحكم وضبط دلالاته وفق السياقات المتحولة. 

لقد انطلق بطبيعة الحال من نظرية المصالح المرسلة لدى المالكية التي ينتمي إليها، كما استوعب أطروحة الضرورات الخمس وأخذ بها بوضوح، ووافق الأصوليين السنة في القول بالتعليل بالحكمة دون القول بمذهب التحسين العقلي الذي اقترب منه كثيرًا متأخرو الأشعرية. بيد أن ما كان يهمه هو وضع كليات عامة للشريعة من خلال تمييزه بين مقاصد الشريعة ومقاصد المكلف، بما يبرر اعتبار كتابه مؤلفًا في الآداب والأخلاقيات وليس مجرد كتاب في الأصول. 

 

أما بن عاشور والفاسي وهما فقيهان إصلاحيان حداثيان، فقد وجدا في نظرية المقاصد نمطًا من التصور العام أو الفلسفة الكلية للدين، ومن هنا تركيزهما على فطرية الأحكام الشرعية أي تناسبها مع نمط من القانون الطبيعي الذي يدرك بالعقل ويتفق فيه كل البشر. أي بعبارة أخرى، إن ما أراده الفقيهان المجددان هو تأسيس خطاب مرجعي حداثي من داخل التقليد الإسلامي ذاته بإعادة بناء مقاربة التأويل والتشريع في هذا التقليد على أسس كلية كونية تستوعب كل جزئيات الشريعة وأحكامها. ولا شك في أن جهود الرجلين تندرج في سياق فكري أوسع هو الاتجاه إلى إصلاح الدين من منظور القيم العقلانية الكونية والانفتاح على الفكر الإنساني الحديث، بما يتجلى في أعمال متزامنة مع كتاب بن عاشور في المقاصد وكتابات علال الفاسي الأولى في الموضوع (مثل كتاب النقد الذاتي). ومن أهم هذه الأعمال كتاب الشيخ الأزهري محمد عبد الله دراز “دستور الأخلاق في القرآن الكريم” الذي هو في أصله أطروحة دكتوراة في فرنسا، وقد ترجم إلى العربية سنة 1950.كما أن إشارات الفيلسوف الهندي محمد إقبال إلى مقاصد الشريعة في كتابه الأخير “تجديد الفكر الديني في الإسلام” (صدرت ترجمته العربية سنة 1955) تهدف إلى الاتجاه نفسه، أي تحويل مقاصد الشريعة إلى رؤية جديدة للعالم بدل اعتبارها مجرد أداة من أدوات استثمار الأحكام الشرعية في النص أو نظرية في التعليل الفقهي. ومن هنا ندرك كيف أن مفكري الإصلاحية الإسلامية أعادوا بناء أطروحة المقاصد لدمج مفاهيم جديدة مثل الحرية والمساواة، مع التوسع والتجديد في مفاهيم العقل والمصلحة والضرورة.

 

لم تهتم أدبيات الإسلام السياسي بنظرية المقاصد إلا بصفة متأخرة، وقد انفردت بتوجيهها في مسلك ما كرسته المدرسة القطبية من فكرة بناء “تصور إسلامي” خاص يكون ناظمًا لكل مواقف الدين من العالم ومن الشأن العام. ما نلمسه في كتابات المقاصديين من مفكري الإسلام السياسي (من طه جابر العلواني إلى عبد الحميد أبو سليمان وأحمد الريسوني) هو تحويل المقاصد إلى نظرية في كليات الشريعة القطعية التي يتأسس عليها مشروع سياسي ومجتمعي عام يمكن الدين من حكم الدولة والمجتمع. 

وعلى الرغم من الاستناد إلى أطروحة الشاطبي العامة في استقراء مقاصد ومصالح الشريعة من النص، إلا أن المطروح هنا ليس ضبط آداب وأخلاقيات الدين كما لدى الفقهاء الكلاسيكيين أو البحث عن قيم كونية مشتركة بين المسلمين وغيرهم كما لدى الإصلاحيين الحداثيين، وإنما بناء خطاب ” أسلمة المعرفة”، أي تكريس شمولية الخطاب الإسلامي وخصوصيته المميزة .

ومن هنا ندرك أن المقاربة المقاصدية في فكر الإسلام السياسي تستهدف من جهة التقليد الإسلامي الكلاسيكي أي التراث الأصولي والفقهي المتهم بالجمود والخضوع للسلطان، ومن جهة أخرى الفكر الحداثي الذي احتفى بمقاصدية الشاطبي وفكرة المصلحة في الشريعة (محمد عابد الجابري وحسن حنفي، وغيرهم) .

 

النتيجة الكبرى لهذا التوجه هي إهمال الصناعة الفقهية في منطقها الديناميكي المتكيف مع السياق كما صاغه الفقهاء في قواعدهم وتجاربهم العملية من خلال إخضاع الحركية التأويلية للنص إلى قواعد تفسيرية وتطبيقية مسبقة، فلم يكن للإسلام السياسي إسهام يذكر في الكتابات الفقهية والأصولية بالمفهوم المتخصص الدقيق.

لقد سعى عدد من كبار المفكرين والعلماء المسلمين في مقدمتهم الشيخ عبد الله بن بية إلى إعادة بناء نظرية المقاصد من أجل استئناف مشروع بن عاشور والفاسي على أسس جديدة تتلاءم مع فكرة الفضائل الكونية التي هي جوهر الرسالة العالمية للإسلام، وذلك ما سنبينه لاحقًا.