الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الفكر العربي ومفهوم المثقف: السياق والتحول، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

كنت في المقال السابق أشرت إلى العلاقة بين خطاب “نهاية الأيديولوجيا” وشعار “نهاية المثقف” الذي شاع كثيرًا في السنوات الأخيرة.

والواقع أن مفهوم “المثقف” وإن استخدم على نطاق واسع في الأدبيات العربية السيارة نادرًا ما حظي بالتحديد المنهجي والاصطلاحي المطلوب.

لن أهتم بتقديم التعريفات الكثيرة حول المثقف ولا بسياق بروز هذا الصنف من الشخصيات العلمية والفكرية الذي يرتبط عادة بحادثة دريفوس الشهيرة والمقال الأشهر الذي كتبه الأديب الفرنسي أميل زولا حول هذه الحادثة بعنوان “إني أتهم” (كانون الثاني/ يناير 1898).

المهم هو أن المفهوم العام للمثقف كما تبلور منذ نهاية القرن التاسع عشر يتركز على الدور المجتمعي الملتزم لرجال الفكر والعلم، باعتبار أن دور الثقافة ليس محصورًا في العلم والتفكير، وإنما لها وظيفة تنويرية أخلاقية تتمثل في الدفاع عن الحقيقة والحق والعدالة.

قد يتسنى ربط هذا التصور للمثقف بعصر التنوير الأوروبي الذي شهد نشأة نمط خاص من الفلاسفة، ركزوا نشاطهم وجهدهم المعرفي والتأملي في قضايا المجتمع والدفاع عن قيم العقلانية والحرية، كما هو شأن فولتير وروسو وجون لوك، وغيرهم.

بيد أن فلاسفة الأنوار وإن غيّروا دور ومنزلة الفيلسوف من المباحث الأنطولوجية والميتافيزيقية إلى المشاغل الإنسانية والمجتمعية (أي ما دعاه ميشال فوكو بالتأريخ للحاضر والتفكير في الراهن)، إلا أنهم يختلفون عن نموذج “المثقف” في صيغته المعاصرة التي لا تنحصر في النخب الفلسفية والعلمية وإنما تشمل القطاع الأوسع والأشمل للمنشغلين بالمجال العمومي من أدباء، وصحافيين ومنتجي معرفة عامة وغيرهم.

ومن هنا اعتبر الفيلسوف الإيطالي غرامشي كل الناس فلاسفة ما داموا يتفقون في مصادر التفلسف الجوهري من لغة وقيم مجتمعية وتراث مشترك. في “رسائل السجن”، يفرق غرامشي بين المثقفين بالمفهوم التقليدي الذين هم طبقة اجتماعية سابقة على البناء الطبقي الحديث وأبرز مثال عليهم هم رجال الدين والمثقفون بالمفهوم الإنثربولوجي الذين هم “المثقفون العضويون” المرتبطون بأوضاع وتطلعات الطبقات الاجتماعية، يصوغون وعي الجماهير ويعبرون عنها بالفكر والأدب والثقافة.

لقد انتشر على نطاق واسع مفهوم “المثقف العضوي” واعتمدته الدوائر الأيديولوجية والسياسية الماركسية، وتزامنت نشأة هذا المفهوم مع صدور كتاب شهير لمفكر ماركسي آخر هو “بول نيزان” بعنوان “كلاب الحراسة” (1932) يحمل فيه على “الفلاسفة المثاليين” الذين يمارسون التفكير خارج ساحة الصراع الاجتماعي، فلا يهتمون بقضايا الاستغلال الطبقي والظلم والتفاوت الاجتماعي، فهم بمثابة حراس السيطرة البورجوازية والهيمنة الرأسمالية.

ولا شك أن أهم من بلور هذا التصور الرسالي الملتزم للمثقف هو الفيلسوف الفرنسي الشهير “جان بول سارتر” الذي اعتبر أن أخلاقيات المسؤولية تندرج في أفق الحرية الوجودية المطلقة التي هي ميزة الإنسان ووضعه الأصلي. في كتابه الأساسي “الوجود والعدم”، يذهب سارتر بوضوح إلى “أن خصوصية الواقع الإنساني تتمثل في أنه لا مسامحة فيه”. وتعني هذه المقولة غياب أي سقف قيمي أو معياري مسبق يحد من حرية الإنسان والتزامه المجتمعي.

 

ولقد ميز سارتر تمييزًا صارمًا بين المثقف والسياسي، باعتبار أن أفق المثقف كوني شامل لا مجال فيه للتنازل والتسويات التوافقية، بينما ينطلق السياسي من المحددات الظرفية المؤقتة، ولذا فإن علاقة المثقف بالواقع القائم لا بد أن تكون إشكالية نقدية وراديكالية ومن هنا يكون هو الضمير الحي للتمرد والثورة والرفض.

لقد دخلت هذه المقاييس النقدية المتمردة إلى الفكر العربي المعاصر في تصور دور المثقف المجتمعي، بما انعكس أساسًا في الأنساق الأيديولوجية التي هيمنت على الساحة السياسية من خلال صورة “المثقف المناضل” الذي يسهم في “توعية الجماهير” والتعبير عن “الضمير الأخلاقي” للمجتمع.

سيطر اليسار العربي بقوة على الحقل الثقافي منذ نهاية الخمسينيات، وهيمنت فيه صورة “المثقف السارتري” برسالته المعرفية والأدبية الملتزمة. ربما كانت رواية “عودة الروح” لتوفيق الحكيم (صدرت سنة 1933) هي تاريخ النشأة الحقيقية للمثقف الذي يمارس عن طريق الأدب نضاله المجتمعي الملتزم، وقد تلتها سنة 1954 رواية “الأرض” لعبد الرحمن الشرقاوي التي تصنف فاتحة العمل الإبداعي في إطار “الواقعية الاشتراكية”.

ومع بداية الثورات العسكرية التي مر بها العالم العربي منذ الخمسينيات، برزت فكرة “حلف الضابط الثوري والمثقف العضوي” لدى قطاع كبير من الكتاب العرب، من أبرزهم أنور عبد الملك وغالي شكري.

لقد كان كتاب المفكر المغربي عبد الله العروي “أزمة المثقفين العرب” (صدر سنة 1974) أول عمل نقدي جذري لمسار المثقف العربي، ولقد انطلق من مقاييس ماركسية تعتمد المقاربة التاريخانية، مطالبًا المثقف العربي بالعودة لأعمال ماركس الشاب القريبة من المثالية الألمانية في تصورها الإنساني لعملية التغيير الاجتماعي الراديكالي.

لقد ظهر من البارز منذ تراجع الموجة اليسارية الثورية العربية في نهاية السبعينيات، أن نموذج المثقف العضوي الملتزم قد انحسر كليًّا، ولم تنجح محاولات انتشاله سواء عبر مقاربة الحلف الثوري بين المفكر والضابط أو عبر مقاربة النقدية التاريخانية.

في العقد الموالي، ظهرت في الفكر العربي أدبيات النقدية الإبستمولوجية والتفكيك ما بعد الحداثي التي استهدفت بالتشكيك نموذج المثقف العضوي الملتزم، في الوقت الذي برزت في الساحة السياسية مبادرة “تجسير الفجوة بين المثقف وصانع القرار” التي طرحها منتدى الفكر العربي بعمان الذي يشرف عليه الأمير الحسن ابن طلال.

وإذا كانت السردية النقدية التفكيكية قد ساهمت في تحجيم الأحلام الثورية الطوبائية للمثقف العربي وربطته بإكراهات الواقع القائم، فإن المبادرة الثانية كرست التعامل الواقعي مع الوضع السياسي والمجتمعي وفق شروط وأدوات الحراك المدني والحقوقي ضمن استحقاقات الانتقال المطروح من الاستثنائية الأحادية إلى الديمقراطية التعددية.

قبل أشهر، أصدر المؤرخ الفرنسي “بيار نورا” كتابًا بعنوان “عناد غريب” هو مذكرات آخر جيل من المثقفين الفرنسيين حسب عباراته. لقد اعتبر نورا أن البلاد التي شهدت نشأة نموذج المثقف في الفكر الأوروبي قد دفنت هذا النموذج ولم يعد بالإمكان الحديث عن مفكر ملتزم بقضايا التنوير والتغيير الاجتماعي.

ما نلمسه في الساحة العربية لا يختلف في العمق عن هذه الظاهرة، وإن كانت آثارها السلبية أكثر حدة وفداحة في مجتمعاتنا المأزومة.