الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الفكر القومي العربي وإشكاليات المواطنة، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

كنا في سلسلة المقالات السابقة، قد وقفنا عند إشكالية الدولة والنزعة الوطنية في عدد من البلدان العربية، مميزين بين دول لم تتشكل فيها هويات وطنية نتيجة لأسباب تاريخية ومجتمعية معقدة، ودول استطاعت فيها الدولة الوطنية صياغة هذه الهوية في سياقات محددة أبرزناها.
ما نريد أن نبينه في هذا الحيز هو أن مختلف الدول العربية تجد اليوم نفسها في الوضع ذاته، أي القصور في مفهوم المواطنة الذي هو محور ارتكاز المجتمع السياسي المنظم في تماسكه وفي انسجامه.
وقد أردنا الإطلالة على هذا الإشكال من منظور مفهوم “المواطنة الدستورية” constitutional citizenship الذي يقوله الفيلسوف الألماني المعروف يورغن هابرماس.
لقد لاحظ هابرماس أن الارتباط بين المواطنة والهوية ليس ضروريًّا ولا عضويًّا، وإنما هو نتاج مسار تاريخي عرضي مرت به أوروبا الحديثة، ومن ثم يمكن الفصل بين المفهومين والتفكير في نمط من المواطنة خارج حيز الدولة القومية بالمفهوم التاريخي المألوف.

صحيح أن النزعة الوطنية في أوروبا قد عززت ووطدت الهوية المشتركة وشجعت من ثم فكرة المشاركة الشعبية التي هي جوهر المواطنة الديمقراطية. والواقع أن الأمر يتعلق بإسناد متبادل، باعتبار أن الشعور بالانتماء المشترك يعضد قيام المشاركة الديمقراطية في الوقت الذي تدفع هذه النظم الديمقراطية التضامن الوطني.
بيد أن هذا الترابط بين الديمقراطية والهوية الوطنية ليس ضروريًّا من حيث المفهوم والتصور، بل يمكن القول إن الفكرتين مختلفتان من حيث المرجعية والغائية، ذلك أن المجموعة السياسية إنما تقوم على الرابطة الديمقراطية المتمثلة في نسق الحقوق والحريات الجامع بين أفراد أحرار ومسؤولين، ولا تنبع من وحدة الكيان الثقافي. إن الحقيقة السياسية القانونية للمواطنة في تعارض مبدئي ونظري مع النزعة الوطنية الخصوصية، لكونها تتأسس على مبادئ كونية وليس على علاقات التماثل والانسجام. فالديمقراطية تدفع في اتجاه التعددية والاختلاف ودولة القانون، بينما النزعة الوطنية عادة ما تصاحبها نوازع الانغلاق، والإقصاء والتوسع.

وهكذا يصل هابرماس إلى ضرورة التمييز بين نمطين من الهويات: الهويات السياسية المبنية على معايير الرابطة المدنية الحقوقية الكونية، والهويات الثقافية التي تكرس واقع الاندماج القيمي في مجموعات لغوية أو دينية منسجمة.

لا بد إذن من التمييز بين مطلب الاندماج السياسي الذي هو هدف الديمقراطية الليبرالية، ومطلب الاندماج الثقافي الذي هو هدف النظم الجمهورية في تصورها للمشاركة الشعبية من منطلق الأمة الواحدة ذات الصوت الوحيد. بيد أن هذا الاندماج الثقافي لا يمكن أن يكون عائقًا أمام مسار المواطنة الدستورية الكونية، بقدر ما أن الدولة الديمقراطية لا بد لها من أن تحترم الحقوق الثقافية للمجموعات المختلفة التي تنتمي للدولة الوطنية.

تلك أطروحة هابرماس التي ظهرت في مرحلة انحسار الدولة القومية الأوروبية وبروز ما سمي بالكيان ما بعد الوطني في إطار مشاريع الاندماج القاري ومسارات العولمة في قولبتها الكونية المتزايدة.
لا تهمنا هذه الجوانب، وإنما تحملنا أفكار هابرماس على إعادة بناء الأطروحة القومية العربية في علاقتها بالنزعة الوطنية وحقوق القوميات والطوائف في ثلاثة اتجاهات كبرى:
أولًا: إعادة بناء فكرة الأمة في تركيبتها المزدوجة الجامعة بين الرابطة السياسية المدنية والرابطة الثقافية الاتيقية. فمن الجلي أن الفكر القومي العربي منذ أربعينيات القرن الماضي لم يستطع تجاوز التصور التاريخي الثقافي للأمة الذي بنى عليه الأهداف السياسية للمشروع القومي في تطلعه لإنجاز وحدة الوطن العربي الكبير. لقد انجرت عن هذا الخلط بين الأمة السياسية والأمة الثقافية نتائج سلبية خطيرة في مقدمتها إهمال حقوق المواطنة والمشاركة السياسية داخل الكيان الوطني، في الوقت الذي قوضت التوجهات القومية نفسها رابطة المواطنة في العديد من البلدان ذات التركيبة المجتمعية المتنوعة. أي بعبارة أخرى، لم يدرك قادة الفكر القومي الفروق الموضوعية بين متطلبات المواطنة في إطار المجتمع السياسي للدولة القائمة ومقتضيات البناء القومي الذي يتعلق بمستوى الاندماج الثقافي الأوسع في إطار الأمة بدلالتها التاريخية والقيمية الجوهرية والعضوية.
ثانيًا: لم يسع قادة الفكر القومي إلى التفكير في مقتضيات الديمقراطية في مجتمع الوحدة المنشود، بما من شأنه تعزيز المشروع القومي نفسه وتحصينه من الداخل بقبوله من مختلف مكونات الأمة وتحمسها له. لقد نظر هؤلاء القادة دومًا إلى التجربة الديمقراطية الليبرالية من حيث هي تجربة مختلة في مجتمع “التجزئة” دون أن يطرحوا في الآن نفسه البديل الديمقراطي في دولة الوحدة الذي يدخل إجمالًا في نطاق ما أطلق عليه هابرماس “المواطنة الدستورية” أي نظام المشاركة السياسية والمدنية في ما وراء حدود الدولة الوطنية الضيقة.
ثالثًا: ظل الفكر القومي إجمالًا عاجزًا عن تصور الاندماج الثقافي القيمي في الأطر الاجتماعية الجزئية، أي ضمن مجتمعات “الأقلية” التي هي من المكونات الرئيسية في جل البلدان العربية، سواء أتعلق الأمر بالهويات اللغوية أو الدينية أو الطائفية. وإذا كان التركيز و على اعتبارات اللغة والوعي قد نجم عنه تجاوز المعطيات الطائفية والدينية التي بقيت حية ونشطة في ساحات كثيرة، فإن الأبعاد والخصوصيات “الإثنية” أو “العرقية” ظلت عصية على الاستيعاب، بما يفسر المأزق السياسي الكبير الذي وصلت إليه عدة دول محورية في النظام العربي. لقد كان من المطلوب أن يستجيب الفكر القومي لمتطلبات الاندماج الثقافي للأمم والمجموعات التي تشكل مكونات مهمة. وفاعلة في المجتمع العربي، بما كان يفترض القطيعة مع تصورات الهيمنة والاحتواء التي سيطرت على جانب هام من كتابات القوميين العرب.

وهكذا نخلص إلى ضرورة إعادة بناء الفكر القومي على أساس معايير المواطنة المزدوجة: في دائرتها المحلية بما تقتضيه من معايير قانونية وسياسية صورية تكفل الانتماء إلى الكيان الوطني الجامع على أساس الرابطة المدنية المشتركة، وفي دائرتها القومية الواسعة ضمن حقائق التنوع الاجتماعي والثقافي التي لا سبيل للانفكاك منها أو القفز عليها.