الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

المشروع النهضوي العربي وإعادة بناء فكرة الوحدة، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

لا مماحكة أن فكرة الوحدة العربية هي المقولة المحورية في المنظومة الأيديولوجية القومية العربية. وقد بيّنا سابقًا أن الفكر السياسي العربي راجع جَذْرِيًّا في العقود الأخيرة تصور المنظور الوحدوي للأمة العربية من منطلق التحولات الكبرى التي عرفها العالم العربي وفي ضوء التحديات الراهنة للمجتمعات العربية.

لقد انجر عن هذه المراجعة الشاملة اتجاه إلى تصور الوحدة المنشودة إما في شكل الاندماج الفيدرالي على غرار التجربة الأوروبية، أو في شكل التعاون والشراكة وفق المصالح الجماعية القائمة كما هو الحال مثلًا في تجربة مجلس التعاون الخليجي.

 

إن هذا الجهد النقدي لم يواكبه مجهود نظري رصين ودقيق في التفكير في مفهوم الوحدة بحسب تحولات المجتمعات الراهنة التي تطبعها التعددية ويسمها التنوع والاختلاف، على المستويات الفكرية والأيديولوجية  والاجتماعية المختلفة.

في الفلسفة الغربية الحديثة طرح هذا الإشكال منذ عصور التنوير وتركز حول مطلب التضامن المدني في مجتمعات حرة تتشكل من أفراد راشدين يختارون بأنفسهم نظامهم السياسي والقانوني.

لقد تركز هذا الحوار حول تقليديين: تقليد التوافق المصلحي الذي يسمح ببناء هوية تعاقدية مشكلة للجسم السياسي السيادي (هوبز)، وتقليد الاستخدام العمومي للعقل الذي يكرس الرابطة القانونية للأمة (كانط).

 

وإذا كان التقليد الأول عانى من ثغرتين خطيرتين هما من جهة ضعف مرجعيته الأخلاقية (الرابطة النفعية المحضة) ومن جهة أخرى هشاشته المؤسسية (صفقة عرضية غير مضمونة)، فإن التقليد الثاني أهمل الوسائط السياسية المجتمعية العينية التي يتأسس عليها النظام المدني بالرهان على عقلانية ذاتية صورية مجردة.

 

لقد طُرحت منذ عصور الأنوار الأوروبية إشكالية الترابط بين البناء القانوني المعياري المستند للقيم الفردية الليبرالية والبناء السياسي ضمن الكيان القومي الذي هو إطار المواطنة والحقوق المدنية.

ومع أن كانط حاول حسم هذا الإشكال بالتفكير في ما سماه بالقانون “الكوسمبولوتي” الذي يعبر عن الرابطة الإنسانية الكونية التي هي التجسيد العملي لوحدة العقل وكرامة الإنسان، إلا أن هذا القانون ظل مجرد مثال طوبائي لا مضمون له لا يتجاوز ما عبر عنه كانط بحق الزيارة، وواجب الضيافة وحماية الغريب.

 

وهكذا، لم يحسم نظريًّا إشكال العلاقة بين المدونة القانونية الليبرالية المرتكزة على الوعي الذاتي الكلي وواقع الدولة القومية التي هي إطار الانتماء المتجسد في الدولة المركزية السيادية. ولقد عبّر الفيلسوف والقانوني الألماني كارل شميت عن هذا المأزق في كتاباته في مرحلة ما بين الحربين، عندما بيّن أن مفهوم السيادة الذي هو أساس بناء الدولة المركزية الوطنية يتعارض ضرورة مع التصورات الليبرالية للهوية السياسية.

 

في الفلسفة المعاصرة حاول الفكر الليبرالي مراجعة مقاربته، بما برز في مقاربتين أساسيتين هما: أطروحة”الإجماع التركيبي”

(Overlapping consensus) التي بلورها الفيلسوف الأمريكي جون رولز، وأطروحة “الفعل التواصلي”  (Communicative action) التي وضعها الفيلسوف الألماني “يورغن هابرماس”.

الإجماع التركيبي بالنسبة لرولز هو الصيغة الوحيدة الممكنة في مجتمعات ليبرالية تعددية لا يمكن أن تتفق على معايير دينية أو قيمية عليا، ولكن ارتباطها يتجاوز في الآن نفسه التوافقات النفعية المحدودة. إنه توافق يقوم على إمكانية التعايش والتحاور بين مذاهب معقولة مختلفة في ما بينها فكريًّا وعقديًّا، لكنها قادرة على التفاهم حول أسس مشتركة جامعة.

 

أما هابرماس، فيرى إمكانية الإجماع من داخل المجتمع التواصلي عبر النقاش العمومي الحر الذي يستخدم المنهج البرهاني العقلاني أداة للتفاهم حول قناعات أساسية ليست قبلية ميتافيزيقية لكنها كونية مضبوطة وموزونة.

لا يبدو أن هذه المقاربات التي ظهرت من داخل الفكر الليبرالي استطاعت حسم الجدل المعقد بين النزعة الكونية الإنسانية التي تتجاوز في المنطق والغاية البناءت السياسية المؤسسية (ومن هنا تحدث هابرماس عن المواطنة الدستورية في مرحلة ما بعد الدولة الوطنية)، والفكرة القومية التي هي في الغالب حصيلة الظرفيات التاريخية العرضية وليست لها مقومات جوهرية عضوية.

 

لا يظهر أن الفكر القومي العربي اهتم بهذه الإشكالات، بل يبدو أنه انطلق من مسلّمة الحالة الطبيعية للوحدة العربية ماضيًا ومستقبلًا، مع الاختلاف حول طبيعة وحدود المشروع الوحدوي الاندماجي.

 

لم يستوعب الفكر العربي المعاصر النظرية الليبرالية كما لاحظ المفكر المغربي عبد الله العروي، بل يبدو أنه بقي متأرجحًا في فراغ تاريخي بين لحظة الإصلاح الديني التي هيمنت على فكر النهضة العربية الحديثة ولحظة الثورة الاشتراكية التي راودت المثقف “الطليعي” والضابط “الحر”.

 

إن مصدر إهمال الفكرة الليبرالية يتمثل في كونها تطرح بقوة مسألة الشرعية السياسية في أعماقها، أي مسوغات ومبررات الوحدة والاندماج بالنسبة لأفراد أحرار راشدين لا يتقيدون إلا بمحض إرادتهم، ويختارون طواعية طبيعة نظامهم السياسي من خلال الأدوات القانونية المصطنعة.

وفق هذا التصور، ليست الوحدة بحالة طبيعية ولا فطرية ولا ضرورة أخلاقية أو حتمية تاريخية، بل هي أفق سياسي اختياري ويجب أن ينسجم مع وعي وإرادة الإنسان.

 

ومن هنا تتغير المقاربة القومية جذريًّا، لا من حيث الحاجة الموضوعية إلى الاندماج العربي وقيام الدولة الواحدة، فالخلاف ليس في الهدف والغاية، بل إن المطلب الوحدوي كما هو بديهي من إجماعات العرب القليلة. إن ما يتغير هو نمط تصور المضمون السياسي لمشروع الوحدة والمسلك العملي لهذا المشروع، بما يكمن في التفكير المزدوج في شكل الكيان السياسي المندمج والآليات العملية لتحقيقه.

 

لم يعد من الممكن تأجيل الحسم المؤجل حول النظام السياسي للدولة الاندماجية العربية المنشودة، ذلك أن الاختيار الليبرالي عنصر دافع عمليًّا لبناء الوحدة المأمولة، كما أن الآليات الديمقراطية الإجرائية على مستوى الكيانات الوطنية هي الميكانيزمات الفاعلة للوصول إلى الحالة الوحدوية بدل الرهان على “العنف المقدس” وانتظار “الزعيم المخلّص”.

 

وبعبارة أخرى، إن الوحدة العربية لن تكون إلا ثمرة مسار اندماجي حر، بالانتقال التاريخي من مجتمعات ديمقراطية حرة إلى دولة المواطنة القومية الشاملة، وذلك هو بالضبط ماذا يعنيه الخيار الليبرالي القومي.