الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

خواطر عن القمم العربية بمناسبة انعقاد قمة الجزائر بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

             خلا ميثاق جامعة الدول العربية، حين أبرم عام 1945، من أي نص يشير إلى مؤتمرات القمة. صحيح أنه تضمن نصًّا يشير إلى أن مجلس الجامعة هو السلطة العليا في هذه المنظم  الإقليمية، غير أنه لم يحدد مستوى تمثيل الدول الأعضاء في اجتماعاته، تاركًا هذه المسألة لتقدير الدول الأعضاء. لكن، وبعد عام واحد من تأسيس الجامعة، رأى الملك فاروق، رئيس الدولة المصرية في ذلك الوقت، أن تطور الأوضاع على الساحة الفلسطينية يستدعي إجراء مشاورات بين الدول العربية على مستوى القمة، ومن ثم بادر بتوجيه دعوة إلى ملوك ورؤساء الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية لحضور اجتماع يعقد في القاهرة لمناقشة القضية الفلسطينية ولاتخاذ ما يلزم من قرارات للتعامل مع تطوراتها المحتملة. وقد رحبت الدول العربية بالدعوة التي وجهت إليها، وانعقد بالفعل أول مؤتمر قمة للدول العربية في استراحة الملك فاروق في إنشاص عام 1946. وقد اختلفت الآراء وقتها في توصيف هذا الاجتماع وفي تحديد طبيعة علاقته بأجهزة الجامعة العربية. فمِن قائل بأنه يعد انعقادًا لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة، ومن قائل بأنه ينتمي لآلية أخرى لا علاقة لها بالجامعة ومؤسساتها. ولأن أحدًا لم يبادر في ذلك الوقت باقتراح عقد اجتماعات دورية عربية على مستوى القمة، فقد اعتبر البعض أن قمة إنشاص تشكل حدثًا استثنائيًّا قائمًا بذاته، خاصة وأنه لم تنعقد أي قمة عربية أخرى طوال السنوات العشر التي أعقبت هذا الحدث، رغم حاجة العرب الماسة لآلية من هذا النوع في تلك المرحلة. فقد منيت الدول العربية بهزيمة كبرى في حرب 1948، وتمكنت إسرائيل خلالها من قضم أراض فلسطينية جديدة تزيد عن نصف المساحة المخصصة لها في قرار التقسيم، ثم أجبرت جميع الدول العربية المجاورة لها على عقد اتفاقات هدنة معها عام 1949. وبعد هذه الحرب، وربما بسببها، شهدت العديد من الدول العربية اضطرابات داخلية مهدت الطريق لانقلابات عسكرية، خاصة في سوريا ومصر، وراح الصراع بين القوى الاستعمارية وحركات التحرر الوطني في معظم الدول العربية يزداد حدة، إلى أن وقع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، حيث رأى بعض القادة العرب أن الحدث يستدعي الدعوة لعقد قمة عربية جديدة. وجاءت الدعوة هذه المرة من الرئيس اللبناني كميل شمعون، وانعقدت بالفعل قمة عربية ثانية في مدينة بيروت، لكنها انفضت أيضًا دون أن يبادر أحد بالدعوة لتحويل مؤتمرات القمة إلى آلية مؤسسية منتظمة تعقد دوريًّا.

وقد استمر الحال على هذا المنوال إلى أن بدأت إسرائيل في تنفيذ مشروعاتها الرامية للاستفادة من مياه الأنهار العربية، وظهور حاجة عربية لوضع الخطط الكفيلة بالتصدي لهذه المشروعات. وجاءت المبادرة هذه المرة من الرئيس جمال عبد الناصر الذي قام بتوجيه الدعوة إلى ملوك ورؤساء الدول العربية لحضور اجتماع يعقد في القاهرة لهذا الغرض، وبالفعل عقد هذا المؤتمر في كانون الثاني/يناير 1964. ولأن نوعية القرارات التي تعين على هذه القمة العربية اتخاذها اقتضت أن تكون هناك متابعة ليس فقط للخطط الخاصة بتحويل مجرى نهر الأردن وإنما أيضًا للتحسب لردود الأفعال الإسرائيلية تجاهها، فقد كان من الطبيعي أن تتبلور وأن تنضج الأفكار المطالبة بانعقاد مؤتمرات القمة العربية بصفة دورية، وهو ما حدث فعلًا. فقد اتخذ مؤتمر القمة الذي انعقد في القاهرة في ذلك الوقت، ولأول مرة في تاريخ الجامعة العربية، قرارًا يقضي بانعقاد القمم العربية بصفة دورية. ومع ذلك، لم تلتزم الدول العربية التزامًا صارمًا بتنفيذ هذا القرار، وبالتالي لم تتمكن مؤتمرات القمة العربية من الانعقاد بانتظام وبصفة دورية، كما كان مقررًا، على الرغم من أن معدلات انعقادها سار منذ ذلك الوقت بوتيرة أسرع مما كان عليه الحال من قبل.

فخلال حقبة الستينيات، عقدت خمسة مؤتمرات قمة عربية، كانت جميعها اعتيادية ولم تعقد أي قمة غير اعتيادية. وعقدت في حقبة السبعينيات ستة مؤتمرات للقمة العربية، منها خمسة مؤتمرات اعتيادية وقمة واحدة غير اعتيادية (قمة أيلول الأسود/سبتمبر 1970)، ثم أصيبت القمم العربية بعد ذلك بارتباك شديد استمر طوال حقبتي الثمانينيات والتسعينيات، حيث أصبح عدد مرات انعقاد القمم غير الاعتيادية أكبر من عدد مرات انعقاد القمم الاعتيادية. فلم تنعقد القمة العربية خلال حقبة الثمانينيات سوى مرتين فقط في دورات انعقاد اعتيادية، مقابل خمس مرات في دورات انعقاد غير عادية. أما حقبة التسعينيات، فلم تتمكن القمم العربية من الالتئام أبدًا في دورات انعقاد اعتيادية، بينما انعقدت أربع مرات في دورات انعقاد غير اعتيادية. وبعد مرحلة طويلة من التيه والتخبط العربي، بسبب إقدام السادات على إبرام معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل عام 1979 ثم إقدام صدام حسين على غزو الكويت عام 1990، قررت جامعة الدول العربية إجراء تعديل في ميثاقها لتقنين دورية انعقاد القمم العربية، وذلك لأول مرة في تاريخها، وبذلك أصبحت مؤتمرات القمة العربية رسميًّا اجتماعات لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة، ووقع على الدول العربية التزام بعقد مؤتمر للقمة مرة واحدة على الأقل سنويًّا، وفي شهر آذار/مارس تحديدًا. ففي قمة عربية غير اعتيادية عقدت في القاهرة في تشرين الأول/أكتوبر عام 2000، تم اتخاذ قرار يقضي بتحديد ثلاثة مستويات لاجتماعات مجلس جامعة الدول العربية: القمة، ووزراء الخارجية، والمندوبون الدائمون. لكن الأهم من ذلك أنه تم اعتبار هذا القرار بمثابة جزء لا يتجزأ من الميثاق، وبالتالي أصبح الانعقاد السنوي للقمة العربية في شهر آذار/مارس من كل عام التزامًا دستوريًّا لا يجوز التنصل منه.

 رغم ذلك، لم تتمكن الدول العربية من الوفاء الصارم بهذا الالتزام. صحيح أن العمل العربي المشترك استفاد كثيرًا من حالة الزخم التي أعقبت هذا القرار (حين أدت إلى تحفيز الدول العربية لعقد قمم نوعية تخصص لبحث القضايا الاقتصادية والاجتماعية)، غير أن القمم العربية الاعتيادية لم تعقد دومًا بانتظام وفي موعدها. فلم تعقد أي مؤتمرات قمة خلال أعوام 2011، و2020 و2021، وكان يفترض أن تنعقد قمة 2022 الاعتيادية في آذار/مارس الماضي، لكنها تأجلت إلى شهر تشرين الثاني/نوفمبر الحالي، بل وكادت تلغى أيضًا لولا إصرار الجزائر على عقدها. أما القمم المخصصة لبحث القضايا الاقتصادية والاجتماعية، فلم يعقد منها حتى الآن سوى أربعة مؤتمرات: الأول عقد في الكويت عام 2009، والثاني عقد في شرم الشيخ عام 2011، والثالث عقد في الرياض عام 2013، والرابع عقد في بيروت عام 2019.

             يتضح مما تقدم أن جامعة الدول العربية تواجه معضلة حقيقية على مستوى العمل المؤسسي، وهو ما ينعكس بوضوح في عجزها عن عقد اجتماعات منتظمة على مستوى القمة. فإذا حاولنا حصر عدد الاجتماعات التي عقدت على هذا المستوى منذ إنشاء الجامعة حتى الآن، فسوف نكتشف أنه ضئيل للغاية بالقياس إلى حجم التحديات التي تواجه العالم العربي. فعلى مدى أكثر من 77 عامًا، هي عمر جامعة الدول العربية، لم تتجاوز اجتماعات القمم العربية ثلاثين اجتماعًا عاديًّا (ينبغي أن نضيف إليها مؤتمري إنشاص عام 1946 وبيروت عام 1956)، بالإضافة إلى أحد عشر اجتماعًا طارئًا، وأربعة اجتماعات فقط خصصت لمناقشة القضايا الاقتصادية والاجتماعية، كما سنكتشف أيضًا أن وتيرة هذه الاجتماعات اختلفت من حقبة إلى أخرى، كما سبقت الإشارة. ويلاحظ هنا أن نقل مقر الجامعة إلى تونس، عقب إبرام مصر لمعاهدة سلام منفردة مع إسرائيل، أثر كثيرًا على انتظام القمم الاعتيادية، وزاد من وتيرة انعقاد القمم غير الاعتيادية أو الطارئة. نفس الملاحظة تنطبق على حقبة التسعينيات أيضًا، والتي لم تعقد خلالها أي قمة عربية عادية، بينما انعقدت أربع قمم غير عادية، وذلك بسبب تفاقم الأزمات البينية الناجمة عن الاحتلال العراقي للكويت. وتعتبر هذه الأرقام، في جميع الأحوال، ضئيلة جدًّا إذا ما قورنت بمثيلاتها في المنظمات الإقليمية.

             لا شك في أن الجزائر بذلت جهدًا خارقًا لعقد القمة العربية الأخيرة. ولأنها تأخرت عن موعدها أكثر من ثلاث سنوات، يظن البعض أن مجرد النجاح في عقدها بعد طول غياب يعد إنجازًا ينبغي أن يحسب للجزائر. غير أن الشعوب العربية، والتي تدهورت أوضاعها كثيرًا خلال السنوات العشر الماضية لم تعد تنظر للأمور على هذا النحو، وباتت في أمس الحاجة إلى من يخرجها من الهوة السحيقة التي سقطت فيها، وتلك مهمة لم يعد بمقدور جامعة الدول العربية، ببنيتها الراهنة، أن تقوم بها. لذا تبدو الحاجة ماسة إلى رؤية جديدة للعمل العربي المشترك، تأمل أن تقود إلى بنية مؤسسية أكثر قدرة على الفعل والإنجاز.