الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

في إشكالية العلاقة بين الديمقراطية والوحدة العربية بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

هل يمكن للوحدة العربية أن تتحقق في ظل أنظمة حكم شمولية لا تراعي القواعد والتقاليد الديمقراطية؟

هذا سؤال لم يحظ للأسف بما يستحقه من اهتمام، خاصة من جانب الرواد الأوائل للفكر القومي العربي. ولا يعود ذلك لتقصير من جانب هؤلاء الرواد بقدر ما يعود لأسباب موضوعية، ربما كان أهمها أن القضية الرئيسية التي استحوذت على جل اهتمامهم في بداية تبلور الفكر القومي العربي ونشأة الحركة القومية العربية تمحورت، كما سبقت الإشارة من قبل، حول بحث العوامل التي تؤدي إلى تكوين الأمم ودفعها لإقامة دولها الموحدة. وهو ما يفسر لماذا انصرفت معظم الجهود والاجتهادات البحثية والفكرية لهؤلاء الرواد إلى القضايا المتعلقة بتشكل الأمة العربية، ومحاولة إثبات مقولة أن الشعوب العربية تنتمي جميعها إلى أمة عربية واحدة يحق لها إقامة دولتها الموحدة. وعندما أثمرت تلك الجهود والاجتهادات بالفعل وأدت إلى نتائج بدت مرضية حينئذ، على الصعيد النظري على الأقل، ساد اعتقاد مفاده أن تحرر الشعوب العربية من الاستعمار الأوروبي وحصول كافة هذه الشعوب على استقلالها السياسي، سيولد لدى هذه الشعوب ما يكفي من الوعي الجمعي لإدراك حقيقة انتمائها القومي، والشروع على الفور في اتخاذ كافة الإجراءات التي تمهد الطريق نحو قيام دولة الوحدة. غير أن الأمور سارت من الناحية العملية على غير ما تشتهي سفن القوميين العرب، وبدلًا من أن تتحقق دولة الوحدة التي تجمع كافة الشعوب العربية تحت مظلة سياسية واحدة، ترسخت وتجذرت وتعددت الدول “القطرية” في العالم العربي، وراحت الخلافات تشتعل فيما بينها، ما دفع الفكر القومي العربي إلى الاتجاه نحو بحث الأسباب والعوامل التي أدت إلى تعثر الحركة القومية العربية، وفشل وانهيار معظم تجارب الوحدة العربية التي قامت بالفعل، أو تلك التي جرت محاولات جادة لإقامتها في مرحلة أو أخرى من مراحل تطور العمل العربي المشترك.

تفتقر المكتبة العربية، في حدود علمي على الأقل، إلى دراسات تؤصّل لطبيعة العلاقة بين الديمقراطية والوحدة العربية، وعن ما إذا كان غياب الديمقراطية وانتشار أنظمة الحكم الشمولية في العالم العربية، من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تعثر تجارب الوحدة العربية. وربما يعود السبب في هذا النقص المعيب إلى طبيعة التجارب الوحدوية العربية التي قامت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والتي أشرنا إليها في مقال سابق. فجميع هذه التجارب تمت بين أنظمة سلطوية أو شمولية، ومع ذلك اختلف مصيرها من تجربة إلى أخرى. صحيح أن معظمها فشل بالفعل، لكن بعضها، مثل تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة على سبيل المثال، نجح بالفعل رغم طابعها الاستبدادي. ولهذا السبب، ربما اعتقد البعض بعدم وجود علاقة سببية بالضرورة بين قضيتي الديمقراطية والوحدة، وبالتالي بين غياب الديمقراطية وفشل تجارب الوحدة العربية. غير أن مثل هذا الاستنتاج يبدو لي متسرّعًا إلى حد كبير. فنجاح تجربة الوحدة في دولة الإمارات، رغم تسلط واستبداد جميع النظم الحاكمة في إماراتها السبع، يعود إلى أسباب كثيرة، لا يتسع المجال لمناقشتها هنا وربما تستدعي بحثًا تأصيليًّا قائمًا بذاته. لكن هذا النجاح لا ينفي أبدًا صحة الفرضية القائلة بأن غياب الديمقراطية ربما يكون أحد أهم الأسباب التي أدت إلى فشل معظم تجارب الوحدة العربية، ما يدفعنا للقول دون تردد إلى افتراض أن نجاح تجارب الوحدة العربية في المستقبل بات مرهونًا ومشروطًا بنجاح عملية التحول الديمقراطي في العالم العربي.

تجدر الإشارة هنا إلى أن قضية الديمقراطية حظيت باهتمام كبير من جانب الفكر العربي، لكن اهتمامه بها تم من خلال منظورين رئيسيين:

الأول: منظور حقوقي، يبحث في أوجه الصلة بين الديمقراطية وقضايا الحقوق والحريات الفردية والجماعية، خاصة الحريات المدنية والسياسية: كالحق في إبداء الرأي، وفي الترشح، وفي الانتخاب، وفي تشكيل الروابط والجمعيات.. إلخ. وقد كرّس جهده هنا للسعي لإثبات أن النظم الليبرالية هي وحدها القادرة على توفير ضمانات تكفل تمتع المواطنين فعليًّا بكل هذه الحقوق، ودون أي تمييز على أساس الجنس، أو اللون، أو الطائفة أو العقيدة السياسية.. إلخ.

الثاني: منظور مؤسسي، يبحث في طبيعة الدور الذي يمكن للديمقراطية أن تلعبه في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، استنادًا إلى قواعدها المعروفة، مثل قاعدة الفصل والتوازن والرقابة المتبادلة بين السلطات، واستقلال القضاء، والشروط التي تضمن حيوية وفاعلية المجتمع المدني، وقاعدتي الشفافية والنزاهة.. إلخ.

 غير أن الفكر العربي لم يهتم كثيرًا بوضوع تأصيل العلاقة بين الديمقراطية وقضية الوحدة العربية، أو بمحاولة البحث فيما إذا كان غياب الديمقراطية يعد سببًا رئيسيًّا في فشل معظم التجارب الوحدوية في العالم العربي، وبأن نجاح بعض هذه التجارب، رغم طابعها الاستبدادي لا ينفي صحة هذه المقولة. وليس معنى ذلك أن البحث في هذه الإشكالية غاب كليًّا عن الفكر العربي، إذ نجد أن بعض الكتابات حاولت التطرق إليها من بعيد، وربما على استحياء. ففي كتاب لي عن: “الاتحاد الأوروبي والدروس المستفادة عربيًّا” (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2004)، محاولة لمناقشة الأسباب التي أدت، من ناحية، إلى نجاح تجربة التكامل والوحدة في أوروبا، رغم افتقارها للكثير من الروابط المشتركة، وإلى إخفاق تجربة التكامل والوحدة في العالم العربي، من ناحية أخرى، رغم توافر الكثير من الروابط المشتركة بين شعوبها التي تؤمن بانتمائها إلى أمة واحدة. وقد خلصت من هذه الدراسة إلى نتيجة أساسية مفادها أن توافر الديمقراطية في تجربة التكامل والوحدة الأوروبية كان من أهم الأسباب التي ضمنت لهذه التجربة عوامل النجاح، وأن غيابها في تجربة التكامل والوحدة العربية، كان من أهم الأسباب التي أدت إلى فشل وإخفاق هذه التجربة. فكافة الدول المنخرطة في التجربة الأوروبية هي دول ديمقراطية تعتمد الليبرالية السياسية أساسًا ومنهجًا للحكم، ولم تتمكن الدول الأوروبية التي تعثرت فيها الديمقراطية، لأسباب تاريخية واجتماعية، مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال، من الانضمام إلى قافلة الوحدة الأوروبية إلا بعد أن استقرت الأوضاع الديمقراطية فيها. بل ويشترط على أي دولة تريد الالتحاق بقاطرة الوحدة والتكامل الأوروبية أن تكون قد اجتازت مسبقًا وبنجاح عملية التحول الديمقراطي فيها باعتباره شرطًا مسبقًا. وقد طبّق هذا الشرط على العديد من الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية قبل انهيارهما. كما خلصت في هذه الدراسة إلى أن الديمقراطية “لعبت في تجربة التكامل والاندماج الأوروبية دورًا مزدوجًا بالغ الأهمية، ومن ثم تعد شرطًا لا تستقيم التجربة التكاملية من دونه. فأي عملية للتكامل والاندماج، خصوصًا إذا تمت وفقًا للمنهج الوظيفي التدرجي، هي عملية مؤسسية في المقام الأول. والدولة التي لا تتخذ فيها القرارات من خلال مؤسسات ديمقراطية منتخبة تحظى بالشرعية لن يكون في مقدورها أن تشارك في عملية بناء المؤسسات المشتركة على الصعيد الإقليمي، والتي هي بدورها عملية ديمقراطية في جوهرها. يضاف إلى ذلك، أن غياب الديمقراطية في الداخل قد يشكل مصدرًا للفوضى وعدم الاستقرار، ومن ثم يمكن أن يتسبب في تعطيل مسيرة البناء التكاملي أو الاندماجي. وأخيرًا، فإن الديمقراطية تعتبر أداة مهمة جدًّا لضبط إيقاع وسرعة حركة المسيرة التكاملية. فهي تساعد ليس فقط على إيجاد حلول فنية للعديد من العقبات السياسية، من خلال ضمان المشاركة النشطة لجماعات المصالح المختلفة في مراحل صنع القرار، وإنما تساعد أيضًا على تحاشي الاندفاع أو التباطؤ في العملية التكامل بأكثر مما ينبغي أو بأكثر مما تحتمله الظروف الموضوعية، ومن ثم تسهم في ضبط إيقاع العملية التكاملية بالقدر المطلوب والممكن استيعابه جماهيريًّا داخل الدول الأعضاء، وهو ما يفسر كثرة اللجوء إلى الاستفتاءات في العملية الديمقراطية.

وفي تقديري أن النتيجة التي توصلت إليها في هذه الدراسة، حول الدور الذي لعبته الديمقراطية في إنجاح وتثبيت دعائم التجربة التكاملية والاندماجية في أوروبا، تصلح للتعميم على كل التجارب التكاملية والاندماجية في العالم، خصوصًا وأن تجربة التكامل والاندماج في أوروبا هي أكثر تجارب التكامل والاندماج نجاحًا وديناميكية في العالم أجمع. لذا يمكن التأكيد، دون أي قدر من المبالغة، على وجود علاقة وثيقة بين الديمقراطية والوحدة، وبأن غياب الديمقراطية في تجارب الوحدة العربية كان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى فشل وإخفاق هذه التجارب. كما يمكن القول، دون أي قدر من المبالغة أيضًا، أن نجاح التحول الديمقراطي في الدول العربية يعد شرطًا مسبقًا لضمان نجاح أي تجارب تكاملية أو وحدوية عربية في المستقبل.