الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

لماذا نجحت محاولات التكامل في أوروبا وفشلت في العالم العربي؟ السياق التاريخي، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

يختلف السياق التاريخي الذي أفرز النظام الإقليمي الأوروبي وتجربته التكاملية، عن مثيله الذي أفرز النظام الإقليمي العربي وتجربته التكاملية.

أولًا: بالنسبة للتجربة الأوروبية

تنتمي الشعوب الأوروبية إلى أصول عرقية وثقافية متباينة وتتحدث بألسنة ولهجات مختلفة، غير أنها تنتمي في معظمها إلى الدين المسيحي. وربما تكون قد توحدت أو تضامنت معًا، كشعوب مسيحية، تحت راية الكنيسة في بعض المراحل التاريخية. غير أن وحدتها الدينية هذه لم تتجسد إلا في مواجهة “الآخر” المختلف، خاصة في مواجهة ما كان يحلو لها أن تطلق عليه “الشرق الكافر”، والمقصود هنا الشعوب الإسلامية التي شنت عليها أوروبا المسيحية موجات متلاحقة من الحروب الصليبية. لذا، لم تصمد الوحدة بين أوروبا المسيحية طويلًا، وما لبثت أن انهارت على إثر الصراعات المختلفة التي اندلعت في مرحلة لاحقة، خاصة الصراعات التي اندلعت بين كل من السلطة الزمنية، ممثلة في الملوك والأمراء الإقطاعيين، من ناحية، والسلطة الروحية، ممثلة في الكنيسة التي كان البابا يجسد وحدتها في ذلك الوقت، من ناحية أخرى، أو الصراعات الدينية التي اندلعت بين الفرق والطوائف المسيحية المختلفة، خاصة بعد ظهور حركة الإصلاح البروتستانتية. وعندما حسم الصراع بين السلطتين الزمنية والروحية في النهاية لصالح السلطة الزمنية، وترسخ الفصل بينهما، خاصة بعد ظهور الدول القومية وإرساء أسس الحكم الديمقراطي في أوروبا، برزت بين الدول القومية الأوروبية أنواع أخرى من الصراعات، ولكن لأسباب ودوافع مختلفة هذه المرة، كان من أبرزها الصراع بين الدول الكبرى للهيمنة على النظام الأوروبي ككل، أو للتنافس فيما بينها من أجل الاستحواذ على أكبر قدر من المستعمرات الخارجية. عاملان أسهما بالنصيب الأكبر في تحديد مسار هذه الصراعات: الكشوف الجغرافية، من ناحية، والثورة الصناعية، من ناحية أخرى. وعلى خلفية من التأثيرات المتقاطعة لهذين العاملين، تفاعلت صراعات القوى الأوروبية، سواء تلك التي استهدفت السيطرة على القارة من داخلها، أو السيطرة على أكبر قدر من المستعمرات خارجها، لتفضي في النهاية إلى حربين عالميتين فقدت أوروبا على إثرهما ليس فقط مستعمراتها في الخارج، وإنما أيضًا مكانتها في النظام العالمي ككل.

بعد الحرب العالمية الثانية، انطلقت من أوروبا الغربية عملية للتكامل والاندماج استهدفت في المقام الأول، إنقاذ أوروبا من نفسها، والحيلولة دون إقدامها على محاولة جديدة للانتحار الجماعي قد تعرض القارة العجوز للفناء هذه المرة. وقد عكس السياق التاريخي للتطور الأوروبي نفسه على تجربة التكامل هذه وأكسبها ثلاث سمات محددة:

أولها: أنها تعد أولًا وقبل كل شيء تجربة في التكامل بين دول قومية متبلورة ومكتملة النضج، لكل منها خصوصيتها وهويتها الثقافية والقومية. وتأسيسًا على هذه الحقيقة، استقر لدى جميع أطرافها وعي تام بأن هدف العملية التكاملية ليس إزالة الخصوصيات القومية، وإنما دعمها والعمل على تقوية الجزء من أجل تقوية الكل، أي إقامة وحدة تقوم على التنوع وتحترمه.

ثانيها: أنها تعد تجربة للتكامل بين نظم ديمقراطية تقوم على المؤسسية، والفصل بين السلطات واحترام حقوق الإنسان والمواطن. وهنا يتعين علينا ملاحظة أن التاريخ الأوروبي الذي أفرز أعرق النظم الديمقراطية هو نفسه الذي أفرز أسوأ أنواع النظم التسلطية والشمولية، قبل أن تصل دول أوروبا الغربية إلى قناعة تامة بأن النظم التسلطية والشمولية هي السبب الرئيسي في إشعال الحروب والصراعات، وأن أوروبا لن تهدأ وتستقر إلا إذا أقامت تجربتها التكاملية بين نظم ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، وهو ما يفسر لماذا قامت التجربة التكاملية الأوروبية في البداية في أوروبا الغربية، ولم تتوسع وتمتد إلى أوروبا الشرقية إلا بعد سقوط حلف وارسو وانهيار الاتحاد السوفييتي.

ثالثها: أنها تعد تجربة لتحقيق الوحدة السياسية على مراحل، وبشكل متدرج يتجنب القفزات السريعة أو المفاجئة، ومن ثم ينبغي أن تبنى على أساس تحقيق مصالح ومنافع متبادلة ومتكافئة بالنسبة للجميع.

 وفي ضوء هذه السمات، يمكن القول أن النهج الوظيفي الذي اعتمدته التجربة التكاملية في أوروبا كمدخل لتحقيق الوحدة لم يكن خيارًا بقدر ما كان حتمية أملاها تاريخ أوروبي مليء بالصراعات الدموية، والقومية والعرقية.

ثانيًا: بالنسبة للتجربة العربية

لتجربة التكامل والوحدة العربية سياق تاريخي وحضاري مختلف إلى حد كبير. فقد ارتبط العالم العربي وجودًا ونشأة بظهور وانتشار الإسلام. وكانت القبائل العربية، باستثناء بعض الهجرات القديمة والمحدودة التأثير، تتركز وتعيش في اليمن وشبه الجزيرة العربية. وبعد نزول القرآن الكريم على محمد، عليه الصلاة والسلام، وتكليفه بالرسالة السماوية، حمل هو وأتباعه مسؤولية نشر الرسالة في قومه أولًا، في مكة والمدينة، قبل أن ينطلق بها بعد ذلك إلى العالمين. وما هي إلا سنوات قليلة حتى كانت الإمبراطوريتان البيزنطية والفارسية تنهاران وتدخل الأقاليم التابعة لهما في الدين الجديد الذي استطاع حملته من العرب، وخلال سنوات قليلة، تأسيس إمبراطورية مترامية الأطراف، خاصة في زمن الأسرتين الأموية والعباسية.

لم يكن تأثير الإسلام في الأقطار التي فتحها نمطيًّا، وإنما اختلف من حالة أخرى. فبعض هذه الأقطار استوعبت الإسلام، كدين، في نسيجها الحضاري والثقافي الخاص، لكنها لم تتبن العروبة لغة أو ثقافة. أما بعضها الآخر، فلم تكتف شعوبه بالدخول في الإسلام كدين، وإنما تبنت في الوقت نفسه لغة القرآن، لسانًا وثقافة، حتى بالنسبة لمن لم يدينوا بدين الإسلام. ومن مجموع الأقطار التي لم تكتف شعوبها بالدخول في دين الإسلام، وتحدثت في الوقت نفسه بلسان العرب وتبنته لغة وثقافة، تشكل “العالم العربي” بحدوده التي نعرفها اليوم. وقد ظلت الأقطار العربية، على اختلاف أنواعها، تعتبر نفسها جزءًا من دار الإسلام الذي لا يميز بين أعجمي وعربي إلا بالتقوى، إلى أن بدأ بعضها يتعرض للغزو والاستعمار الأوروبي، على الرغم من تبعيتها الشكلية لحكم عثماني كان قد طال لقرون عديدة تدهورت خلالها أحوال العرب ومكانتهم. ولذلك، فعندما بدأت التيارات والأفكار القومية تهب على أوروبا ومنها إلى العالم، بدأ العالم العربي يشعر بخصوصيته القومية داخل الإمبراطورية العثمانية ويتطلع نحو الاستقلال الكامل، ليس فقط عن الاستعمار الأوروبي وإنما أيضًا عن الإمبراطورية العثمانية. ولأن بريطانيا استغلت انتشار الأفكار القومية لدى شريحة من النخب العربية لإشعال “الثورة العربية الكبرى” ضد الحكم العثماني، فقد كان من الطبيعي أن تتلاقى المصالح العربية والبريطانية ظرفيًّا، غير أن بريطانيا راحت تتآمر سرًّا لتقسيم العالم العربي إلى مناطق نفوذ بينها وبين فرنسا عقب هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى (اتفاقية سايكس بيكو، 1916)، كما أعلنت عن مساندتها للمشروع الصهيوني الذي استهدف إقامة دولة يهودية في فلسطين (وعد بلفور، 1917). ومن ثم، فقد بدأ الفراق بين الطرفين يظهر بوضوح. وعندما بدأت رياح الحرب العالمية الثانية تهب في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، خشيت بريطانيا من انحياز العديد من حركات التحرر الوطني في الدول العربية إلى ألمانيا، ومن ثم سعت لتكرار لعبتها القديمة والإيحاء بأنها ستدعم أي حركة تستهدف توحيد الشعوب العربية تحت راية أو مظلة سياسية واحدة. وقد التقطت مصر الخيط هذه المرة وبدأت بالفعل في إجراء مشاورات ثنائية ثم مشاورات جماعية بين الدول العربية انتهت بالتوقيع على بروتوكول الإسكندرية عام 1944 ثم على ميثاق جامعة الدول العربية في مارس 1945، وهكذا ولدت اللبنة الأولى في تجربة التكامل والوحدة العربية.

لقد عكس هذا السياق التاريخي نفسه، وبشكل محدد ومباشر، على خصائص التجربة العربية في التكامل، وذلك على النحو التالي:

أولًا: أنها تعد تجربة للتكامل بين أقطار ينظر إليها على أنها دول مصطنعة، يعكس وجودها واقع التجزئة المطلوب تجاوزه لبناء الدولة القومية الموحدة. ولذلك وجدت التجربة التكاملية العربية نفسها منذ البداية محشورة بين تيارين على طرفي نقيض: أحدهما وحدوي يريد دفع العمل العربي المشترك في اتجاه الحد الأقصى من خلال العمل على قيام دولة فيدرالية أو كونفدرالية موحدة، والآخر قطري يريد اختزال العمل العربي المشترك وقصره إلى الحد الأدنى الذي لا يتجاوز عملية التنسيق بين سياسات ترسمها حكومات مستقلة ذات سيادة.

وثانيًا: أنها تعد تجربة للتكامل بين دول لم تكن قد حصلت على استقلالها السياسي بالكامل بعد. ولأن بعضها كان ما يزال خاضعًا للاحتلال الأوروبي مباشرة بينما كان بعضها الآخر واقعًا تحت النفوذ، والهيمنة المباشرة أو التبعية لهذه القوة الأوروبية أو تلك، فقد كان من الطبيعي أن تتقاطع مطالب الاستقلال والتخلص من الاستعمار الأجنبي، بمطالب الوحدة والتكامل القومي.

وثالثها: أنها تعد تجربة للتكامل بين دول تخضع لأنظمة حكم غير ديمقراطية، ولذلك فقد نمت التجربة التكاملية العربية في ظل أنظمة حكم تتسم بعدم الاستقرار ويغلب عليها الطابع الشمولي أو الاستبدادي. ولأن أي تجربة تكاملية هي بطبيعتها تجربة مؤسسية تتطلب بناء مؤسسات على مستوى الإقليم، فقد كان من الطبيعي أن تتعثر تجربة التكامل بين دول تفتقر أنظمتها الحاكمة إلى التقاليد المؤسسية.