الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

لماذا نجحت محاولات التكامل في أوروبا وفشلت في العالم العربي؟ نتائج واستخلاصات عامة، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

لم يكن الهدف من سلسلة المقالات التي نختتمها اليوم إضفاء هالة من القداسة على تجربة أوروبية في التكامل والوحدة، تعد بكل المقاييس العلمية والموضوعية تجربة فريدة وناجحة في الوقت نفسه، ولا كان محاولة للانتقاص من قدر تجربة عربية، تعد بكل المقاييس العلمية والموضوعية أيضًا تجربة متعثرة، وإنما تسليط الضوء على العوامل والأسباب التي أدت إلى الإخفاق هنا والنجاح هناك، رغم امتلاك العالم العربي لروابط تاريخية وثقافية مشتركة أقوى بكثير من تلك التي تجمع بين الدول الأوروبية. لكن ذلك لا يعني أبدًا أننا نرى في التجربة الأوروبية نموذجًا يحتذى، ومن ثم فقد بات على كل مجموعة إقليمية ترغب في التكامل والوحدة أن تقتدي به أو تسير على هداه، وإلا كان مصيرها الفشل. فقد أوضحنا في سياق هذه السلسلة من المقالات، أو نأمل أن نكون قد تمكنا من ذلك بالفعل، أن معظم الأسباب التي أسهمت في نجاح التجربة الأوروبية مستمدة من تاريخ وخصائص المجتمعات الأوروبية ذاتها، ومن ثم ينبغي على كل تجربة تكاملية أن تستمد عناصر نجاحها من فهم دقيق لخصائصها ومقوماتها الذاتية، وأن تتجنب النقل الحرفي لتجارب الآخرين، مع الحرص في الوقت نفسه على استخلاص الدروس المستفادة من هذه التجارب. ولا شك في أن التجربة الأوروبية في التكامل والوحدة غنية بالدروس التي يمكن للتجربة العربية أن تستفيد منها. وفيما يلي محاولة لاستخلاص أهم هذه الدروس، من وجهة نظرنا على الأقل، نعرضها على النحو التالي:

1-     مزايا التدرج: فقد أثبتت التجربة الأوروبية أن بناء التكامل بين الدول على أسس متينة ينبغي أن يتم من أسفل إلى أعلى، وفق عملية مرحلية متدرجة، تبدأ بقطاع إنتاجي أو خدمي محدد، يفضل أن يكون أحد القطاعات الرئيسية في اقتصاديات الدول المشاركة في هذه العملية، ثم يجري التوسع بضم تدريجي لقطاعات أخرى، وفق منهج وسرعات منضبطة ومدروسة، إلى أن تكتمل المسيرة التكاملية وتحقق أهدافها وغاياتها النهائية. وقد رأينا كيف بدأت التجربة الأوروبية بمحاولة تحقيق التكامل في قطاع الفحم والصلب أولًا، وذلك لأسباب أمنية واقتصادية في الوقت نفسه، ثم توسعت بعد ذلك لتشمل التجارة والاقتصاد، إلى أن تمكنت من إقامة منطقة جمركية موحدة، ثم سوق مشتركة، ثم سوق موحدة، وحين وصل الاقتصاد الأوروبي إلى درجة من التداخل والتشابك بدأ التفكير في صك عملة أوروبية موحدة، ومن ثم أصبح الطريق ممهدًا للتطلع بعد ذلك نحو الوحدة السياسية. بعبارة أخرى، يمكن القول إن التجربة الأوروبية أثبتت أن المسار المتدرج يشكل شبكة أمان يمكن أن تساعد على تجنيب العملية التكاملية مخاطر الانزلاق نحو قفزات سريعة ومفاجئة، عادة ما تنتهي بالفشل والانهيار، ويتيح أمام الدول المشاركة إمكانية ضبط سرعة العملية التكاملية والتحكم في مسارها بالقدر الذي تحتمله أوضاعها الداخلية وما قد تنطوي عليه من تقلبات محتملة في أمزجة الرأي العام. هذا لا يعني أن نجاح التجربة التكاملية في العالم العربي بات مشروطًا بالسير على نفس الدرب، وإنما يعني أن التدرج في العملية التكاملية أفضل من سياسة حرق المراحل، وأنه يفرض على العالم العربي اختيار قطاع يتناسب مع ظروفه وأوضاعه السياسية والأمنية الخاصة تبدأ به العملية التكاملية، شريطة أن يكون قطاعًا قويًّا ومؤثرًا بقوة في اقتصاديات الدول المشاركة في هذه العملية. وبتطبيق هذا البعد على الحالة العربية، يمكن القول إن أي تجربة عربية تكاملية ناجحة قادرة على التحول إلى قاطرة لقيادة مسيرة الوحدة في العالم العربية يمكن أن تبدأ، على سبيل المثال، بمحاولة التكامل في قطاع البترول والغاز. 

2-     حسن اختيار المجموعة “النواة”: فقد أثبتت التجربة الأوروبية أنه ليس من الضروري أن تبدأ العملية التكاملية بمشاركة جميع الدول التي ترتبط فيما بينها بروابط خاصة تميزها عن غيرها من المجموعات الإقليمية. فقد بدأت بمجموعة صغيرة من ست دول ثم توسعت تدريجيًّا، وذلك حين اشتد عودها وأصبحت قادرة على أن تشكل منطقة جذب وأن تتحول إلى قاطرة قادرة على قيادة المسيرة وتوسيع نطاقها أفقيًّا ورأسيًّا في مراحل لاحقة. ويلاحظ هنا أن مشاركة الدول الأوروبية الكبرى، وهي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، في هذه المجموعة النواة كانت حاسمة لضمان نجاح تجربة التكامل الأوروبي برمتها. وإذا طبقنا هذا البعد على الحالة العربية، وبافتراض أن أي عملية تكاملية جديدة في العالم العربي يجب أن تبدأ “بمجموعة نواة” من الدول المنتجة والمصدرة للنفط والغاز، أتصور أن هذه المجموعة النواة يجب أن تضم أربع دول عربية كبرى على الأقل، هي مصر والسعودية والعراق والجزائر، بالإضافة إلى بقية دول الخليج المنتجة للنفط أو الغاز.

3-     المرونة وتعدد السرعات: فقد أثبتت التجربة الأوروبية أنه ليس من الضروري أن تسير العملية التكاملية بنفس السرعة على مختلف الأصعدة، وتمكنت من السير بمعدلات سرعة مختلفة، دون المساس بوتيرة التكامل في القطاعات الرئيسية المحددة للأرضية المشتركة لجوهر العملية التكاملية. وبهذه الطريقة، تم استثناء دول معينة من الانخراط الفوري في عملية تكاملية تخص قطاعات أو مجالات بعينها، ترى الدول المعنية أنها تحتاج لوقت أطول قبل أن تصبح جاهزة للانخراط فيها. وعلى سبيل المثال، فليست كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أعضاء في “منطقة اليورو” أو في المنطقة التي تعتمد “فيزا شنجن”، وما تزال لبعضها عملتها الوطنية الخاصة، كما لا يسمح لحاملي “فيزا شنجن” بعبور أراضي كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

4-     المواءمة بين مبدئي المساواة والفاعلية: فقد نجحت تجربة التكامل الأوروبي في التوفيق بين مبدئين متعارضين هما: مبدأ المساواة السيادية بين الدول، من ناحية، والحاجة إلى مؤسسات تكاملية فاعلة، من ناحية أخرى. فالمبدأ الأول يقضي بأن تكون للدول الأعضاء، وهي بطبيعتها متفاوتة الأحجام والقدرات، أوزان تصويتية متساوية وفقًا لقاعدة صوت واحد لكل دولة، بينما يقضى المبدأ الثاني بأن يكون لكل دولة وزن تصويتي يتناسب مع حجمها وقدراتها الفعلية. وبناء عليه فقد تم التمييز بين القضايا التي ترى الدول الأعضاء أنها تمس أمنها القومي، حيث تم الاتفاق على أن تتخذ فيها القرارات بإجماع الأصوات، والقضايا الأخرى الداخلة في صلب العملية التكاملية، حيث تم الاتفاق على أن تتخذ القرارات فيها بأغلبية خاصة وبأن يكون لكل دولة وزن تصويتي مختلف يتناسب مع حجمها وقوتها. وبهذه الطريقة استطاعت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي المحافظة على سيادتها مع ضمان سير العملية التكاملية بالسرعة والإيقاع المناسبين في الوقت نفسه.

وفي تقديري أن هذه الدروس الأربعة المستخلصة من دراسة تجربة التكامل الأوروبية الناجحة، يمكن أن تفيد في التغلب على مسببات الفشل في التجربة العربية، وتساعد على إعادة إطلاق تجربة تكاملية تتوافر لها مقومات النجاح. فمن الناحية النظرية البحتة، يمكن تصور إمكانية انطلاق تجربة تكاملية عربية ناجحة، تحاكي النمط الأوروبي، من حيث الركائز والمقومات العامة الأساسية، وتتجنب النقل الحرفي في الوقت نفسه. وعلى سبيل المثال يمكن لتجربة عربية تكاملية جديدة قابلة للنجاح أن تنطلق، إذا توافقت مجموعة من الدول العربية المنتجة والمصدرة للنفط والغاز، ولتكن دول مجلس التعاون الخليجي الست بالإضافة إلى مصر والجزائر والعراق، على وضع قطاع النفط والغاز تحت إدارة سلطة عربية عليا مشتركة، من خلال تأسيس “مجموعة عربية للنفط والغاز” على نمط “المجموعة الأوروبية للفحم والصلب في التجربة الأوروبية”. إذ يمكن لهذه “السلطة”، في حال قيامها، أن تصبح ليس فقط لاعبًا رئيسيًّا في السوق العالمي للنفط والغاز، وإنما تكون أيضًا بمثابة القاطرة التي تتولى إقامة مشروعات البنية الأساسية المشتركة اللازمة لتحقيق التكامل العربي في مختلف المجالات، مثل مشروعات الربط الكهربائي، والموانئ والمطارات والطرق..إلخ. غير أن نجاح أي مجموعة عربية تكاملية من هذا النوع في القيام بالمهام والأدوار المطلوبة منها يتوقف على توافر شرطين رئيسيين:

الأول: أن يتم تزويد المؤسسات التكاملية بكافة الصلاحيات والاختصاصات التي تمكنها من أداء وظائفها دون عوائق، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بتنازل الدول الأعضاء عن جانب مهم من سيادتها لصالح “السلطة العليا المشتركة”، وذلك في كل القرارات المتعلقة باستخراج وتسويق النفط والغاز.

الثاني: أن يتم اتخاذ القرارات في هذه المؤسسات بطريقة توائم بين الحرص على سيادة الدول الأعضاء، من ناحية، وضمان فاعلية العملية التكاملية، من ناحية أخرى، وهو ما يتطلب القبول بفكرة الأوزان النسبية عند التصويت، استنادًا إلى معايير محددة يمكن الاتفاق عليها، مثل: تعداد السكان، وحجم الناتج القومي، وقيمة ما تنتجه وتصدره من النفط والغاز.. إلخ.

           غير أن أيًّا من هذين الشرطين لا يتوافر حاليًّا على أرض الواقع. فالدول العربية، نفطية كانت أم غير نفطية، ما تزال تتمسك بعناد بسيادتها واستقلالها، خاصة في مواجهة الدول العربية الأخرى، رغم استعداد معظمها للتنازل عن جزء كبير منهما لقوى أجنبية ترتبط معها بعلاقات خاصة. ولأن بعض الأنظمة الحاكمة في العالم العربي تعتبر النفط والغاز ملكية خاصة لها، يصعب تصور أن تقبل بوضع قطاع النفط والغاز تحت سيطرة سلطة عربية مشتركة، حتى ولو كانت مرشحة لأن تلعب فيها دورًا محوريًّا، ما يعيدنا إلى نقطة الصفر من جديد. فالعملية التكاملية هي في جوهرها عملية بناء مؤسسي على الصعيد الإقليمي، ومن ثم لا يتوقع أن تقبل بها أو تتحمس لها دولٌ لا تعرف معنى المؤسسات أصلًا. ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فمن الواضح أن نجاح أي عملية تكاملية في العالم العربي بات مشروطًا بنجاح عملية التحول الديمقراطي في هذا العالم أولًا. وهذا هو الدرس الأساسي الذي يمكن استخلاصه من التجربة الأوروبية. فلولا توافر هذا الشرط لما نجحت التجربة التكاملية في أوروبا، حتى لو توافرت جميع الشروط الأخرى.