الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

لماذا نجحت محاولات التكامل في أوروبا وفشلت في العالم العربي؟ تحييد الخلافات السياسية، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

تفترض النظرية الوظيفية أن نجاح أي عملية تكاملية، بالبناء المتدرج من أسفل إلى أعلى والبدء بالتكامل في قطاع معين أو في مجموعة محدودة من القطاعات ثم التوسع تدريجيًّا إلى أن يتحقق هدف الوحدة المنشود، يتوقف على قدرة الدول المشاركة فيها على فصل النواحي الفنية عن النواحي السياسية والعمل على تحييد الخلافات السياسية فيما بينها قدر الإمكان حتى يمكن توفير البيئة المناسبة لحماية المسيرة التكاملية وضمان استمرارها. صحيح أن مسيرة التجربة التكاملية في أوروبا تشير إلى استحالة تجنب الخلافات السياسية، نظرًا لصعوبة الفصل الكامل بين النشاط السياسي وبقية الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، لكن الدول الأوروبية التي انخرطت فعلًا في هذه المسيرة بدت رغم ذلك شديدة الحرص على حل الخلافات السياسية التي قد تنشب بينها بطريقة لا تؤدي إلى وقف هذه العملية أو تعطيلها أو دورانها في حلقة مفرغة، وبالتالي كانت راغبة دائمًا في توفير الضمانات التي تسمح للعملية التكاملية بالتقدم إلى الأمام باستمرار. وكان هذا أحد أهم العوامل التي أدت إلى نجاح التجربة التكاملية في أوروبا وإلى فشلها في العالم العربي. وفيما يلي محاولة لإلقاء مزيد من الضوء على هذا البعد.

أولًا: بالنسبة للتجربة الأوروبية

كان قيام “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب” إيذانًا ببدء مرحلة جديدة بدا فيها التيار الفدرالي المطالب بمؤسسات فوق قومية وكأنه حقق انتصارًا حاسمًا، مما ألهب خيال أنصار حركة الوحدة الأوروبية. ولم تكد تمر شهور قليلة حتى كانت الدول الأعضاء في جماعة الفحم والصلب قد تمكنت من إبرام معاهدتين جديدتين، الأولى لتأسيس “الجماعة الأوروبية للدفاع”، والثانية لتأسيس “الجماعة السياسية الأوروبية”. لذا بدت مسيرة الأحداث التي تتابعت خلال الأعوام 1951-1953 مؤذنة بانطلاق قطار الوحدة الأوروبية بسرعة أكبر مما كان متوقعًا في البداية، ومن ثم ساد انطباع مفاده أن قطار الوحدة المندفع بسرعة لن يتوقف قبل قيام “الولايات المتحدة الأوروبية”، غير أنه ما لبث أن تبين أن هذا الانطباع كان متعجلًا وأن الرياح لم تهب بما تشتهي سفن التيار الفدرالي. فقد شهدت هذه المسيرة المندفعة بسرعة أكبر مما تحتمله الحقائق على الأرض انتكاسة كبرى عام 1954، حين رفضت الجمعية الوطنية الفرنسية التصديق على معاهدة “الجماعة الأوروبية للدفاع”. ومع ذلك لم تستطع هذه الصدمة، على قسوتها، وقف المسيرة التكاملية أو دفعها إلى الوراء، وظلت نواتها الصلبة، ممثلة في “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب”، صامدة وقادرة على تجاوز هذه الانتكاسة المؤقتة، ومن ثم تواصلت الجهود الرامية للبحث عن مسالك ودروب جديدة. وهكذا اتجه التفكير نحو الأمور المتعلقة بالاقتصاد، والبعد قدر الإمكان عن الأمور المتعلقة مباشرة بالسياسة والأمن، بعد أن ثبت أن التعجل في ضم القطاعات المتصلة بالسياسة والأمن يمكن أن يعرض العملية التكاملية برمتها لمخاطر كبيرة. وفي سياق هذا التوجه الجديد، والمتسق مع تعاليم النظرية الوظيفية، أمكن الاتفاق والتوقيع في روما عام 1957 على اتفاقيتين لإنشاء جماعتين جديدتين، هما “الجماعة الاقتصادية الأوروبية” و”الجماعة الأوروبية للطاقة الذرية”، دخلا حيز التنفيذ في أول كانون الثاني/يناير 1958. وهكذا بدت مسيرة التكامل الأوروبي وكأنها قد تمكنت من تصحيح مسارها ومن استعادة عافيتها من جديد. غير أن تطور الأحداث عاد ليثبت أن هذه المسيرة ما تزال محفوفة بالمخاطر. فبعد وصول الجنرال ديجول إلى الحكم في فرنسا عام 1958، تبنت فرنسا رؤية جديدة حول ما ينبغي أن تكون عليه مسيرة الوحدة الأوروبية، مفادها أنه لا ينبغي أن تصنع هذه المسيرة في أروقة الأجهزة البيروقراطية العاملة في بروكسل، وإنما عبر عملية توافقية تقودها حكومات منتخبة ديمقراطيًّا، وتتمحور حول ضرورة التنسيق الدائم والمستمر بين الحكومتين الفرنسية والألمانية بالذات. وقد تسبب هذا الطرح الجديد في اندلاع أزمة تسببت في إثارة العديد من المشكلات والعقبات أمام مسيرة التكامل الأوروبي، وصلت إلى حد إقدام فرنسا على مقاطعة اجتماعات المؤسسات الأوروبية وممارسة ما عرف باسم “سياسة الكرسي الشاغر” التي استمرت لسبعة أشهر كاملة. ولا شك في أن اندلاع هذه الأزمة فرض على مسيرة الوحدة الأوروبية ضرورة البحث عن صيغة جديدة قادرة على إحداث التوازن بين الحساسيات القائمة بين الدول والحكومات، بتمسكها العنيد بمبدأي السيادة والمساواة، وبين متطلبات الوحدة والاندماج، التي تفترض وجود مؤسسات مشتركة قوية، تتمتع بسلطات وصلاحيات واسعة تمكنها من تغليب مصلحة الجماعة على مصالح الدول الفردية، غير أنها لم تستطع، وهذا هو المهم، وقف المسيرة. وقد أمكن العثور على الصيغة المرجوة، من خلال دمج الجماعات الثلاث في جماعة واحدة، بموجب اتفاقية وقعت عام 1965 ودخلت حيز التنفيذ عام 1967، مع التوصل في الوقت نفسه إلى حل وسط لمشكلات الإصلاح المؤسسي يتيح قدرًا من التوازن بين المجلس والمفوضية (تسوية لوكسمبورج التي أقرت مبدأ التصويت بالإجماع داخل المجلس في الأمور التي تمس مصالح أساسية عليا). لذا يمكن القول إن مسيرة الوحدة الأوروبية شهدت خلال الحقبة الديجولية (1958-1969) حالة أقرب ما تكون إلى الوقفة التعبوية منها إلى التعثر والانتكاس، وربما تكون قد أسهمت في شحذ الهمم استعدادًا لانطلاقة جديدة أقوى. صحيح أن ديجول وقف سدًا منيعًا دون التحاق بريطانيا بالعملية التكاملية الأوروبية، لأسباب لا حاجة بنا للدخول في تفاصيلها هنا، لكن هذه العملية كانت قد وصلت عند رحيله إلى درجة النضج التي تمكنها من الانطلاق في مدار غير قابل للارتداد.

لقد أحيت الأزمة التي فجرها ديجول جدلًا قديمًا متجددًا على الدوام بين الفدراليين والاتحاديين، ما كان يكاد يخبو حتى يشتعل من جديد. فقد ساعدت المواقف الديجولية على منح هذا الجدل زخمًا غير مسبوق وأضافت إليه أبعادًا أعمق، وفي سياقه دار نقاش خصب شمل كافة الإشكاليات الرئيسية: شكل الوحدة المنشود، وأهدافها، وآلياتها، والمنهج المستخدم في تحقيقها، وعلاقة الاقتصاد بالسياسة في العملية التكاملية، ونطاق السلطة الممنوحة للمؤسسات المشتركة، كما أصبح محتمًا على الجماعة الأوروبية التي كانت ما تزال قاصرة على الدول الست المؤسسة أن تحدد موقفها بوضوح من مسألتين رئيسيتين، الأولى: التوسع الأفقي، بضم دول جديدة راغبة في الالتحاق بمسيرة الوحدة الأوروبية، والثانية: التوسع الرأسي، بتوسيع نطاق العملية والتكاملية وضم قطاعات جديدة لها. فعلى صعيد التوسع الأفقي: بدأت الجماعة الأوروبية تنظر في طلبات العضوية المقدمة من العديد من الدول الأوروبية، وذلك عبر سلسلة من الموجات المتعاقبة. ففي موجة أولى انضمت المملكة المتحدة وأيرلندا، اعتبارًا من أول كانون الثاني/يناير 1973، وفي موجة ثانية انضمت اليونان، اعتبارًا من أول كانون الثاني/يناير 1981، وفي موجة ثالثة انضمت إسبانيا والبرتغال، اعتبارًا من أول كانون الثاني/يناير 1986، وبعد سقوط الكتلة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفيتي راحت طلبات الالتحاق بالعملية التكاملية الأوروبية تتسارع. ففي موجة رابعة انضمت السويد والنمسا وفنلندا اعتبارًا من أول كانون الثاني/يناير 1995. وشهد عام 2004 أكبر موجة من الانضمام شملت كلًا من أستونيا، وبولندا، وجمهورية التشيك، وسلوفاكيا وقبرص، ولاتيفيا، وليتوانيا ومالطا والمجر. وفي عام 2007، انضمت بلغاريا ورومانيا، وكانت كرواتيا آخر الدول الملتحقة عام 2013، ليصبح عدد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي 28 دولة لكنه عاد وانخفض إلى 27 دولة، بعد انسحاب بريطانيا، وهكذا وصل عدد سكان هذا الكيان التكاملي الضخم إلى ما يقرب من 450 مليون نسمة. أما على صعيد التوسع الرأسي، فبعد أن كانت عملية التكامل الأوروبي قاصرة عند انطلاقها على قطاع الفحم والصلب، راحت هذه العملية تضم قطاعي التجارة والطاقة النووية. ولأن نهج التكامل القطاعي بدا وكأنه استنفد أغراضه بعد انطلاق العملية التكاملية بسنوات قليلة، فقد تم اعتماد نهج التكامل الاقتصادي الشامل، إلى جانب النهج القطاعي الذي تبين أنه لا يكفي وحده لضمان انتقال سلس ومتدرج وتلقائي إلى مرحلة التكامل والاندماج الكامل، واحتاج هذا النهج ليس فقط إلى خطط مرحلية مدروسة، وإنما أيضًا إلى بنية تنظيمية قوية تتمتع بسلطات واسعة، وإلى حد أدنى من التوافق السياسي بين الحكومات المشاركة في العملية التكاملية، وفرا له كل عناصر النجاح المطلوبة لتمكين التجربة التكاملية في أوروبا من الانتقال بسلاسة من مرحلة الاتحاد الجمركي، إلى مرحلة السوق الموحدة، إلى مرحلة السياسات الاقتصادية والعملة الأوروبية الموحدة، ثم التطلع بعد ذلك إلى الدخول التدريجي الحذر في مرحلة بناء الوحدة السياسية، من خلال العمل على توحيد السياسات الخارجية وسياسات الأمن والدفاع.

ثانيًا: بالنسبة للتجربة العربية

سلكت تجربة التكامل والوحدة في العالم العربي طريقًا مختلفًا تمامًا، سيطرت فيه السياسة على كل ما عداها، وحالت الخلافات السياسية الحادة بين أنظمة حكم سلطوية وغير ديمقراطية ليس لها خبرة واضحة بطريقة عمل المؤسسات، دون الاتفاق على عملية تكاملية تدرجية. ولأن أي عملية تكاملية تدرجية أو قطاعية لا يمكن أن تنطلق إلا بإقامة مؤسسات مشتركة تتمتع بسلطات فوق الدول، وهو ما يصعب على كافة الأنظمة العربية قبوله أو احتماله، فلم يكن من المتصور أن تأخذ تجربة الوحدة العربية شكلًا آخر غير التنسيق الأفقي بين دول وحكومات متساوية في السيادة.