الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

لماذا نجحت محاولات التكامل في أوروبا وفشلت في العالم العربي؟ معضلة الأمن، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

 لا يمكن الشروع في أي عملية تكاملية بين دول تخاف من بعضها البعض وتفتقر إلى الحد الأدنى من الثقة المتبادلة فيما بينها، ولأن بين فرنسا وألمانيا تاريخًا طويلًا من العداء المتبادل وعدم الثقة، فقد استحال التفكير في أي عملية للتكامل في أوروبا الغربية إلا من خلال مشروع يسمح في الوقت نفسه بحل عقدة الأمن بين فرنسا وألمانيا، ويصلح في الوقت نفسه لكي يكون مدخلًا لبدء عملية تكاملية جادة وفاعلة. ولأن قضية الأمن لم تطرح على العالم العربي في سياق مماثل، فقد كان من الطبيعي أن تختلف تجربة التكامل الأوروبي على هذا الصعيد مقارنة بتجربة التكامل العربي.

 

أولًا: بالنسبة للتجربة الأوروبية

توقف نجاح أي مشروع للتكامل أو الوحدة بين الدول الأوروبية، حتى لو اقتصر على دول أوروبا الغربية وحدها، أولًا وقبل كل شيء، على قدرته على حل معضلة مزمنة تسببت من قبل في الكثير من المآسي والصراعات، ليس لأوروبا وحدها وإنما للعالم كله، ألا وهي معضلة الأمن القائمة بين فرنسا وألمانيا منذ عقود طويلة. ففرنسا. كما هو معروف. تنظر إلى ألمانيا، ومنذ إعلان قيام دولة ألمانيا التي توحدت عام 1871، باعتبارها المنافس الأخطر والكابح الأكبر لطموحاتها على الصعيدين الإقليمي والدولي، ولا شك في أن ألمانيا تبادلها نفس الشعور بالخوف وعدم الثقة. بل ويرى بعض المؤرخين أن العداء الألماني لفرنسا ربما كان أحد أهم الأسباب التي عجلت بقيام الوحدة الألمانية. وحين نجحت فرنسا في إلحاق الهزيمة بألمانيا، بالتعاون مع حلفائها في الحرب العالمية الأولى، تصورت أن تقطيع أوصالها واحتلال أجزاء من أراضيها، وإرغامها على دفع تعويضات مالية كبيرة هو السبيل الوحيد لإضعاف هذه الدولة الفتية وتحجيم قدراتها. غير أن هذه السياسة أدت إلى نتائج عكسية، ومن ثم أسهمت في تأجيج مشاعر الثأر والانتقام لدى الشعب الألماني، ومهدت الطريق أمام ظهور هتلر، الذي تمكن بعد وصوله إلى السلطة من إذلال فرنسا وفرض هيمنة الجيش الألماني على معظم أرجاء القارة الأوروبية. لذا تعين على النخب المؤمنة بفكرة الوحدة الأوروبية، وخاصة النخب الفرنسية، أن تغير من أفكارها القديمة ومن أساليب عملها البالية وأن تقتنع بمسألتين مترابطتين عضويًّا:

·        الأولى: أنه لا سبيل لتحقيق السلام والأمن في أوروبا إلا من خلال إطلاق عملية تكاملية أو وحدوية ناجحة، تبدأ من أوروبا الغربية.

·        الثانية: أنه لا سبيل إلى إطلاق أي مشروع تكاملي أو وحدوي أوروبي ناجح وقابل للتطبيق على أرض الواقع، إلا إذا عثر على وسيلة لحل معضلة أو عقدة الأمن المتوارثة بين فرنسا وألمانيا.

وانطلاقًا من هاتين القناعتين، وتأسيسًا عليهما، يمكن القول إن المشروع الذي صاغه الدبلوماسي ورجل الأعمال الفرنسي، جون مونيه، عام 1950، ثم قدمه بعد ذلك إلى رئيس الوزراء ووزير الخارجية الفرنسي آنذاك، روبرت شومان، كان مشروعًا مبتكرًا وعبقريًّا بكل ما تنطوي عليه الكلمة من معنى، ليس فقط لأنه انطوى على حل لمعضلة الأمن بين فرنسا وألمانيا، ولكن لأنه ساعد بالفعل على تصميم قاطرة قوية يمكنها جر كل عربات التكامل اللازمة للوصول بحلم الوحدة الأوروبية إلى بر الأمان. لذا من الطبيعي أن يرى كثيرون في جون مونيه الأب الروحي والصانع الحقيقي لعملية التكامل والوحدة في أوروبا.

تأثر جون مونيه كثيرًا بالنظرية الوظيفية التي وضع دافيد ميتراني أسسها، وهي النظرية التي ترى أن السلام بين الأمم لا يتحقق عبر عملية بناء تجري من أعلى إلى أسفل، أي من خلال قيام مؤسسات سياسية تستهدف إخضاع الدول المشاركة فيها لسلطة أعلى منها، وإنما عبر عملية بناء تبدأ من أسفل إلى أعلى، أي تبدأ ببناء المؤسسات غير السياسية القادرة على معالجة أوجه الخلل الاقتصادي والاجتماعي الذي عادة ما يتسبب في اندلاع الحروب واللجوء إلى العنف، ثم التدرج خطوة خطوة إلى أن تصبح الأوضاع ناضجة لبناء المؤسسات السياسية والأمنية الموحدة. وعندما بدأ جون مونيه يفكر في نوعية القطاعات الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن تبدأ بها العملية التكاملية، وتكون قادرة في الوقت نفسه على أن تسهم بفاعلية في حل معضلة الأمن في أوروبا، خاصة تلك التي تسببت فيها عقدة الخوف المتبادل بين فرنسا وألمانيا، هداه تفكيره إلى أن قطاع الفحم والصلب هو القطاع الأنسب والأمثل في هذه الحالة، ومن ثم فإن وضعه تحت إدارة سلطة أوروبية مشتركة، من خلال تأسيس ما أصبح يعرف لاحقًا باسم “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب”، كفيل بحل المعضلتين معًا: معضلة التكامل ومعضلة الأمن.

أدرك جون مونيه أن تكليف سلطة أوروبية مشتركة بإدارة القطاعات الأكثر إسهامًا في الصناعات العسكرية وفي النشاط الحربي هو الضمان الوحيد لتمكين فرنسا من التغلب على عقدة خوفها المستعصية من ألمانيا. فحين يصبح القطاع الذي يشكل عصب الصناعة العسكرية الألمانية تحت إدارة سلطة أوروبية مشتركة تكون فرنسا جزءًا منها، بدلا من سلطة ألمانية منفردة، فإن ذلك يعني عمليًّا تجريد السلطات الألمانية من أي قدرة على التصرف المنفرد في أي أمر يخص الصناعات والأنشطة الحربية، وهو ما يمكن أن يلقى ترحيبًا من جانب الرأي العام الأوروبي، خاصة الفرنسي. أما بالنسبة لألمانيا، فقد بدت الفكرة نفسها مغرية أيضًا بالنسبة لها، لأنها تساعدها ليس فقط على إزالة كافة العقبات التي تحول دون استعادتها لسيادتها واستقلالها، ومن ثم إعادة لملمة أجزائها المبعثرة وأوصالها المتقطعة تمهيدًا لتطبيع علاقاتها المتوترة بالمجتمع الدولي، ولكن أيضًا على أن تجعل منها في المستقبل شريكًا متساويًا مع فرنسا في قيادة مسيرة الوحدة الأوروبية.

 على صعيد آخر، أدرك جون مونيه أن قطاع الفحم والصلب يشكل في الوقت نفسه واحدًا من أهم وأضخم القطاعات الاقتصادية، لأنه كان يعد حينئذ عصب الصناعة الأوروبية ككل، وليس صناعة السلاح فقط، ومن ثم فإن وضعه تحت سلطة أوروبية مشتركة تتمتع بصلاحيات فوق قومية، يساعد على اختراق حاجز السيادة المحرم، ومن ثم تزويد تجربة التكامل الأوروبية الوليدة بقاطرة قوية قادرة على جر عربات التكامل الأخرى التي يمكن أن تنضم إليها في مرحلة أو مراحل لاحقة. فنجاح تجربة التكامل الأوروبي في قطاع الفحم والصلب يمكن أن يشكل دافعًا قويًّا لتوسيع نطاق التجربة التكاملية ومدها إلى قطاعات اقتصادية أخرى، بحكم الارتباط العضوي بين هذا القطاع وبين قطاعات أخرى مؤثرة في الاقتصاديات الأوروبية، وكذلك بحكم تأثير ظاهرة النضح أو الرشح التي تمارسها النجاحات أو الإنجازات المتحققة spill over، ما يساعد على بناء تجربة تكاملية قوية من أسفل إلى أعلى وليس العكس.

ولأن أفكار مونيه كانت منطقية بما يكفي لإقناع روبرت شومان، رئيس الوزراء ووزير الخارجية الفرنسي، فقد تبناها الأخير على الفور وطرح خطوطها العريضة يوم 9 أيار/مايو في مبادرة تحمل اسمه، رحبت بها كل من ألمانيا وإيطاليا على الفور، كما رحبت بها دول البينولوكس الثلاث: بلجيكا وهولندا ولوكسمبرج، وتم التوقيع عليها من جانب الدول الست في 18 نيسان/ إبريل 1951، فيما عرف باسم “اتفاقية باريس” والتي تم التصديق عليها في 10 آب/أغسطس 1952، ليبدأ ظهور “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب” التي أصبحت هي النواة الأساسية والقاطرة الرئيسية لعملية التكامل والوحدة في أوروبا.

 

ثانيًا: بالنسبة للتجربة العربية

اختلف الطريق العربي نحو عملية التكامل اختلافًا تامًّا عن مثيله الأوروبي. فلم تكن هناك عقدة أمن عربية شبيهة بعقدة الأمن الأوروبية، لأن العلاقات بين الدول العربية، خاصة خلال أربعينيات القرن الماضي، كانت في مجملها تعاونية، رغم مظاهر عدم الثقة المتبادلة التي تسببت فيها عوامل كثيرة تدور في معظمها حول العلاقة بين النخب الحاكمة في العالم العربي. لذا يمكن القول بثقة أنه لم تكن هناك معضلة أو عقدة أمنية تشبه تلك التي كانت قائمة بين ألمانيا وفرنسا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. ففي بداية نشأة النظام الإقليمي الرسمي العربي، والذي دشنه قيام جامعة الدول العربية عام 1945، كانت الشعوب والحكومات العربية على السواء قد بدأت تدرك أن المشروع الصهيوني الذي يستهدف إقامة دولة يهودية في فلسطين هو مصدر التهديد المشترك الذي يواجه الدول العربية جميعًا، وهو المشروع الذي قررت جامعة الدول العربية مواجهته والتصدي له بالقوة عقب الإعلان عن قيام الدولة الإسرائيلية في 14 مايو/أيار 1948. ورغم أن كان يمكن لهذا التهديد الخارجي المشترك أن يشكل حافزًا لتطوير مؤسسات العمل العربي المشترك، إلا أن توافر هذا العامل لم يكن كافيًا وحده لإطلاق تجربة تكاملية عربية على النمط الأوروبي. صحيح أن جيوش الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية شاركت مجتمعة في حرب 1948، غير أن هذه المشاركة تمت من خلال وحدات عسكرية منفصلة ولم تخضع لقيادة أو لمؤسسة عربية مشتركة أو موحدة. وحتى عندما قررت الدول العربية، بعد هزيمتها في هذه الحرب، إبرام اتفاقية للدفاع المشترك في إطار جامعة الدول العربية، ظلت هذه الاتفاقية حبرًا على ورق ولم تدخل حيز التنفيذ الفعلي في أي وقت لاحق. وقد استحال، في جميع الأحوال، الولوج إلى قضية الوحدة أو التكامل في العالم العربي من مدخل الأمن الجماعي، مهما بلغ حجم التحديات الخارجية، لأن التكامل الأمني تطلب رؤية سياسية عربية موحدة، لم يكن هناك إجماع عليها من الأنظمة العربية الحاكمة في ذلك الوقت، ولم تتوافر في أي وقت لاحق.