الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

لماذا نجحت محاولات التكامل في أوروبا وفشلت في العالم العربي؟ المنهج التكاملي، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

يعد اختيار المنهج الملائم أحد العناصر الأساسية اللازمة لضمان نجاح أي عملية تكاملية أو وحدوية في أي من مناطق العالم. فلكل عملية من هذا النوع سمات تميزها عن غيرها، بحكم اختلاف سياقاتها التاريخية وطبيعة الدول والمجتمعات المشاركة في إطلاقها. والفرق كبير بين تجربتي التكامل الأوروبية والعربية من هذا المنظور، حيث أدت عوامل موضوعية وذاتية إلى دفع النخب الأوروبية للتفكير عميقًا في طبيعة المنهج الأكثر ملاءمة لإنجاح عملية التكامل والوحدة التي سعت لتأسيسها، إلى أن تمكنت من العثور عليه بالفعل، ما ساعد كثيرًا على إنجاح التجربة الأوروبية. أما النخب العربية، ولأسباب موضوعية وذاتية مختلفة، فلم تشغل نفسها كثيرًا بأمر البحث عن المنهج الملائم، وهو عامل كان في تقديري أحد أهم الأسباب التي أدت إلى تعثر وإخفاق المحاولات الرامية للقيام بعملية تكاملية أو وحدوية ناجحة في العالم العربي.

أولًا: بالنسبة للتجربة الأوروبية

اهتمت النخب الأوروبية التي انشغلت بالدعوة إلى الوحدة الأوروبية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية بالبحث عن منهج مبتكر قادر على مواجهة التحديات الكبيرة التي كانت تواجهها في ذلك الوقت. فما أن بدأت تباشير النصر على دول المحور تلوح في الأفق، وسط حطام هائل راكمته حربان عالميتان شهدتهما أوروبا خلال أقل من نصف قرن، حتى بدأ قادة الفكر الوحدوي في أوروبا يبحثون عن طريقة مبتكرة لتجنيب القارة حربًا ثالثة لا يمكن أن تقوم لها قائمة بعدها. ولأن أوروبا كانت في حالة يرثى لها من الارتباك والفوضى، رغم سعادة شعوبها بالتحرر من قبضة النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، فقد بدت عاجزة عن العثور على حل سحري يمكنها من إعادة ترتيب بيتها من الداخل. فألمانيا المهزومة محتلة ومقسمة بين قوى التحالف الرئيسية الأربع المنتصرة في الحرب، وإيطاليا تعيش حالة أقرب إلى الاحتلال منها إلى الاستقلال رغم هزيمتها وخروجها مبكرًا من الحرب، ونصف فرنسا المقاوم، والذي مكنها من السير في ركاب القوى الظافرة، بدا عاجزًا عن غسل عار نصفها الآخر المهزوم والمتعاون مع النازية. أما بريطانيا، والتي بدت حينئذ وكأنها القوة الأوروبية الوحيدة التي يحق لها أن ترفع رأسها وتتحدث كدولة منتصرة، فكانت تمر بحالة نفسية مركبة ومعقدة، ربما بسبب الإرهاق وعبء الديون المتراكمة خلال فترة الحرب. ورغم أن فكرة الوحدة الأوروبية بدت، في سياق كهذا، وكأنها دفنت إلى الأبد، إلا أن شريحة فعالة من النخب السياسية الأوروبية بدت مقتنعة تمامًا بأنها الفكرة الوحيدة القادرة على إنقاذ أوروبا من نفسها والحيلولة دون اندلاع الصراعات من جديد بين الدول الأوروبية الكبرى، وهو ما يفسر شروع هذه النخب، خلال السنوات القليلة التي أعقبت الحرب مباشرة، في تأسيس عدد لا يحصى من الحركات، والتنظيمات، والتجمعات والمنتديات الفكرية والسياسية المطالبة بتحقيق الوحدة الأوروبية، شملت كل ألوان الطيف السياسي في أوروبا الغربية كلها، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ويشير الجدل الذي احتدم بينها خلال تلك الفترة، إلى توافقها إجمالًا على ضرورة توافر مجموعة من الشروط في المنهج الأكثر ملاءمة لإطلاق تجربة تكاملية أو وحدوية ناجحة، يمكن تلخيصها على النحو التالي:

 الشرط الأول: إيجاد حل لمعضلة الأمن في أوروبا. وهي معضلة ناجمة عن شعور عميق بعدم الثقة ولد مخاوف متبادلة بين ألمانيا وفرنسا تم توارثها عبر فترة تاريخية طويلة. فمن هاتين الدولتين الكبيرتين، المتقاربتين في القوة والإمكانات، خرجت زعامات، من أمثال نابليون الفرنسي وهتلر الألماني، وصل طموحها الشخصي إلى حد الرغبة في السيطرة على القارة الأوروبية بأكملها. ولأنه كان يخشى من أن تؤدي النزاعات الحدودية ومشاعر الكراهية المتجذرة بين هاتين الدولتين إلى إعادة تأجيج الرغبة في الانتقام والثأر في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد تولدت لدى معظم النخب الوحدوية في أوروبا قناعة راسخة باستحالة الشروع في عملية تكاملية أوروبية فعالة ما لم يتم إيجاد حل لهذه المعضلة.

الشرط الثاني: إيجاد حل لمعضلة بناء المؤسسات. فالدول الأوروبية، شأنها في ذلك شأن بقية الدول في مختلف مناطق العالم، تتفاوت من حيث المساحة والسكان والثروات البشرية والطبيعية..إلخ، وبالتالي تختلف قدراتها العسكرية، والسياسية، والاقتصادية والاجتماعية. ولأنها جميعًا، شأنها في ذلك شأن بقية دول العالم الأخرى، حريصة على سيادتها واستقلالها، فإن نجاح أي عملية تكاملية بينها سوف يكون مرهونًا بطبيعة الحال بقدرتها على إقامة مؤسسات مشتركة توفق بين عدد من الاعتبارات المتناقضة، كاعتبار الفاعلية: الذي قد يتطلب أحيانًا تمييز الدول الكبيرة ومنحها أوزانًا تصويتية تتناسب مع قدراتها وإمكاناتها، واعتبار المساواة: الذي قد يتطلب أحيانًا منح الدول الصغيرة حق الاعتراض على مشروعات القرارات التي تتناول قضايا حساسة لتمكينها من المحافظة على استقلالها ومنع صدور قرارات قد ترى أنها تمس سيادتها.

الشرط الثالث: البحث عن وسيلة لتحييد الخلافات التي من شأنها منع عرقلة العملية التكاملية بعد انطلاقها والبناء على ما هو مشترك ويحقق مصلحة لكل الدول الأعضاء. ولأنه يصعب إحراز تقدم في كل المجالات المرغوب تحقيق التكامل فيها بمعدلات سرعة متساوية، يتعين أن تتوافر في أي عملية تكاملية فعالة القدرة على فرز وتحديد الأولويات التي تناسب جميع الأعضاء وتتفق مع مصالحهم، والسماح في الوقت نفسه بالتقدم في العملية التكاملية بسرعات مختلفة تتناسب مع طاقة وقدرات الدول الداخلة في هذه العملية.

  الشرط الرابع: ضمان ديناميكية العملية التكاملية والحيلولة دون تحولها إلى آلية بيروقراطية لخدمة مصالح العاملين في أجهزتها الإدارية، وهو ما يمكن أن يتحقق من خلال ضمان التكافؤ أو التوازن بين كافة الشركاء، سواء فيما يتعلق بعملية توزيع الأعباء أو فيما يتعلق بعملية توزيع الأرباح والمكاسب المتحققة.

ولأن كافة هذه الشروط بدت متحققة في المشروع الذي اقترحه جون مونيه عام 1950، والخاص بإقامة “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب” كنقطة انطلاق لعملية التكامل والوحدة المرجوة بين الدول الأوروبية، فقد كان من الطبيعي أن تلقى ترحيبًا واسعًا، سواء من جانب النخب الحاكمة أو من جانب النخب السياسية الأوسع.

ثانيًا: بالنسبة للتجربة العربية

لم تنشغل النخب السياسية والفكرية العربية كثيرًا بمسألة البحث عن منهج معين يصلح لإطلاق عملية تكاملية حقيقية بين الدول العربية. فحين أطلق وزير الخارجية البريطاني عام 1943 تصريحات مرحبة ومؤيدة لأي صيغة وحدوية يمكن أن تتفق عليها الحكومات العربية، لم تكن النخب العربية منشغلة كثيرًا بقضية التكامل العربي أصلًا، ربما لانشغالها بقضايا العمل الداخلي وبالصراع مع المحتل الأجنبي أكثر من انشغالها بأية قضايا أخرى. صحيح أن التيارات القومية في دول المشرق العربي كانت نشطة وما تزال مؤمنة بفكرة الوحدة العربية، رغم الإحباطات الناجمة عن عدم وفاء بريطانيا بوعودها الخاصة بالمساعدة على قيام دولة عربية موحدة في المشرق العربي عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، غير أن رؤيتها للوحدة العربية في ذلك الوقت غلب عليها الطابع الرومانسي، ومن ثم فلم تشغل نفسها كثيرًا بالاختلافات البنوية القائمة بين الدول والمجتمعات العربية، وهي اختلافات قائمة في الواقع العربي وتتعايش فيه جنبًا إلى جنب مع عوامل ومقومات الوحدة القائمة بين الشعوب العربية في الوقت نفسه. وفي تقديري أن هذا كان أحد العوامل التي ربما تكون قد حالت بينها وبين التفكير والبحث عن المنهج الأمثل للتغلب على معوقات العمل العربي المشترك.

فحين التقط النظام المصري الخيط، عقب صدور التصريحات البريطانية الداعمة لفكرة الوحدة العربية، محاولًا الاستفادة من الفرصة المتاحة، وبدأ في إجراء مشاورات مع حكومات الدول العربية المستقلة أو شبه المستقلة في ذلك الوقت، وهي سوريا ولبنان والأردن والعراق والسعودية واليمن، حول أنسب الصيغ الملائمة للعمل العربي المشترك، لم تطرح خلال هذه المشاورات مشروعات تفصيلية تتضمن منهجًا واضحًا أو خريطة طريق محددة يمكن أن تفضي في النهاية إلى تحقيق الوحدة العربية المنشودة. صحيح أن هذه المشاورات ناقشت رؤى عامة حول الصيغة الملائمة لتحقيق الوحدة العربية في هذه المرحلة المبكرة، لكنها كانت في معظمها رؤى تعكس الخلافات التقليدية المعروفة بين التيارين الفيدرالي والكونفدرالي. فبينما طالب التيار الفيدرالي بمؤسسات وحدوية تتمتع بسلطات مركزية قوية، خاصة في المجالات الأمنية والاقتصادية، طالب التيار الكونفدرالي باللامركزية وبتقليص الصلاحيات الممنوحة للمؤسسات الوحدوية، لتنتهي هذه المناقشات التمهيدية بتنحية النهجين معًا والاكتفاء بإنشاء منبر لتنسيق السياسات بين دول عربية مستقلة، وهي الصيغة التي تضمنها ميثاق جامعة الدول العربية. فقد وجدت معظم الحكومات العربية المشاركة في هذه المشاورات التمهيدية أن الصيغة الأنسب للعمل العربي المشترك في ذلك الوقت تقضي بإقامة إطار مؤسسي للتنسيق بين سياسات تقررها حكومات مستقلة. لذا، لم يتضمن ميثاق الجامعة العربية إقامة أي مؤسسات تتمتع بسلطات حقيقية فوق سلطة الدول الأعضاء، وبدا الحرص واضحًا على اتخاذ القرارات بالإجماع. وهناك ظروف وملابسات عديدة، سنشير إليها لاحقًا، حالت دون تطوير مؤسسات الجامعة العربية بما يتلاءم والطموحات القومية.