الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

مشروع النهوض العربي والعدالة الاجتماعية، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

منذ أربعينيات القرن الماضي، بدأ مشروع النهوض العربي يتبنى مقولة الاشتراكية على اختلاف مفاهيمها ومقارباتها. بدأ المسلك مع حزب البعث الذي اعتمد صفة الاشتراكية وضمها إلى اسمه، قبل أن تسلك ثورة “23 يوليو” الناصرية الاتجاه ذاته بما كرسه تأسيس الحزب الوحيد للدولة “الاتحاد الاشتراكي العربي” سنة 1962.

انخرطت الجزائر في الاتجاه ذاته منذ استقلالها سنة 1962 ورفع حزبها الوحيد “جبهة التحرير” الشعار الاشتراكي، وفي تونس تسمى حزب الحركة الوطنية العتيد باسم “الحزب الاشتراكي الدستوري” رغم توجهات الزعيم بورقيبة الليبرالية.

وفي العراق وسوريا وليبيا واليمن الجنوبي والسودان، تبنت الأنظمة الثورية الخيار الاشتراكي، واعتبرته الطريق الأمثل للعدالة الاجتماعية.

بالنسبة للبعثيين، ظلت الفكرة الاشتراكية داخلة في صلب فكرة الانبعاث القومي وملتبسة بالنزعة الشعبية القائمة على الالتحام بروح الأمة ووعيها، رغم بعض المحاولات الفردية للاستيحاء من الفلسفة الماركسية.

وفي ميثاق جمال عبد الناصر الصادر سنة 1962، عرفت الاشتراكية بأنها “الكفاءة في الإنتاج والعدالة في التوزيع” وإن كان القاموس الماركسي حاضرًا جُزْئِيًّا من خلال عبارة “سيطرة الشعب على أدوات الإنتاج”. وقد كانت قرارات التأميم، والإصلاح الزراعي وبرامج التخطيط الصناعي في مصر أهم التجارب الاشتراكية في العالم العربي.

لقد طرح مفكرو الاشتراكية العربية منذ نهاية الخمسينيات سؤال التحول الاجتماعي الجذري في العالم العربي، في سياقات تختلف نَوْعِيًّا عن البلدان التي عرفت الثورات الاشتراكية.

 وفي حين بدا أن خيار الثورة العمالية الذي طرحه ماركس طريقًا للاشتراكية في أوروبا الصناعية غير ملائم للمجتمعات العربية، كما أن مسلك اتحاد العمال والفلاحين الذي نجح في روسيا والصين غير متاح أيضًا، راهن دعاة الاشتراكية العربية على الجيش دعامة للتغيير الاشتراكي.

ولقد نجحت بالفعل التنظيمات القومية العربية في توظيف المؤسسة العسكرية في المعترك السياسي ووصلت عن طريقها للحكم في العديد من البلدان العربية المحورية.

وهكذا أصبح التساؤل المطروح على دعاة الاشتراكية العرب: كيف يمكن أن نقوم الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي قام بها الضباط الثوريون؟ هل تدخل في صلب المشروع الاشتراكي المنشود أم هي تحريف وتشويه له وبالتالي عقبة في طريقه؟

في هذا الباب، تميز المفكر والاقتصادي المصري الراحل سمير أمين بنظريته في الاستقطاب الرأسمالي والتبعية غير المتكافئة، التي ذهب فيها إلى طرح خيار فك الارتباط مع المراكز الرأسمالية الغربية وبناء اقتصاديات وطنية متمحورة حول الذات. وقد تجاوز تأثير هذه النظرية الدوائر الماركسية لتنفذ بقوة إلى الحقل الأيديولوجي العربي الأوسع، لكن كل المحاولات التي تمت باسمها أخفقت أشد الإخفاق.

يذكر لنا المفكر المغربي البارز محمد عابد الجابري أن الاشتراكيين المغاربة الذين أضافوا صفة الاشتراكية إلى حزبهم “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” عام 1975 انتقلوا من فكرة الثورة الاشتراكية الطبقية إلى فكرة الاشتراكية الليبرالية التي تعتمد معايير الديمقراطية الانتخابية التعددية، وأنه لا سبيل للفصل بين قيمتي الحرية والعدالة الاجتماعية.

لقد تواكب هذا التحول الذي عرفته تيارات اشتراكية عربية أخرى (مثل حزب التجمع الوطني التقدمي في مصر) مع تنامي حركة “الاشتراكية الاجتماعية” في أوروبا التي تسلمت السلطة في عدد من أهم بلدان القارة العجوز في الوقت الذي انحسرت التنظيمات الشيوعية الراديكالية قبل أن تنهار كُلِّيًّا مع انكسار النموذج السوفياتي بامتداداته في أوروبا الشرقية.

ومع أن تجارب التحول الديمقراطي التي عرفتها جل الأقطار العربية منذ بداية التسعينيات -غالبًا تحت ضغط القوى الدولية الكبرى ومؤسسات التمويل الغربية- قد واكبها تنامي النزعة الليبرالية الجديدة التي تجلت في برامج الخصخصة وتفكيك القطاع العام، إلا أن مطلب العدالة الاجتماعية ظل حاضرًا بقوة في الخطاب السياسي الرسمي والمعارض.

بيد أن هذا المفهوم لم يحظ في الغالب بمراجعات نظرية وفكرية دقيقة، رغم أنه أصبح من مرتكزات الفكر الفلسفي والاجتماعي المعاصر.

لقد طرح موضوع العدالة في الفكر الراهن من خلال ثنائية الليبرالية والتضامن التي انجرت عن الانعكاسات السلبية للسياسات الاقتصادية الرأسمالية في الدول الغربية بعد نهاية سنوات الوفرة التي تلت الحرب العالمية الثانية.

وهكذا أصبح السؤال المطروح هو كيف يمكن الدفاع عن هدف الحرية كقيمة ضامنة للمساواة بين أفراد المجتمع في سياقات يتجذر فيها التفاوت والغبن والاستغلال؟ ألا تفضي الحرية في هذه الحالة إلى نفي نفسها، ما دام التمايز والظلم هما نقيض الحرية كمفهوم وكغاية؟

ولا شك في أن أطروحة الفيلسوف الأمريكي جون رولز حول العدالة المنشورة سنة 1971 هي أهم محاولة لإعادة بناء نظرية العدالة في المجتمعات الليبرالية، بجمعها بين ثلاثة مبادئ مترابطة هي: مبدأ المساواة في الحرية، ومبدأ المساواة في الفرص ومبدأ تسوية الاختلالات عن طريق سياسات التضامن الاجتماعي.

ما يركز عليه رولز هو شروط التوزيع العادل للثروات المادية والرمزية، بحيث تكفل المساواة في “الخيرات الأولية” (Primary goods) التي تجمع بين الحقوق الإنسانية الجوهرية والمساواة في النفاذ إلى مواقع السلطة والثروة في مجتمع مفتوح، لا مكان فيه للاستغلال والاحتكار والتسلط.

ومع أن نظرية رولز تعرضت لانتقادات كثيرة، أهمها اتهامها بالمركزية الثقافية بحيث لا تصلح إلا للمجتمعات الليبرالية الصناعية الغربية، إلا أنها رسمت الإطار النظري والجدلي لسؤال العدالة الاجتماعية في السياق العالمي الراهن.

لم يعد بإمكان الفكر العربي تجاوز هذه الإشكالية الجديدة، لكون الفصل بين مدونة الحقوق السياسية، والحريات وسياسات التنظيم الاقتصادي والاجتماعي غير ممكن. 

وكما أن خيار الليبرالية الكلاسيكية غير المقيدة غير متاح، وكما أن مسلك “الدولة الراعية” (إيليا حريق) التي هي النسخة المحلية من دولة الرفاهية الرأسمالية (Welfare state) أثبتت فشلها عَرَبِيًّا، فإن يوتوبيا الثورة الاشتراكية قد انحسر كامل زخمها.

لا بد لمشروع النهوض العربي من التفكير المجدد في مقولة العدالة الاجتماعية ضمن شروط ومحددات الفكر الفلسفي والاجتماعي الراهن.