الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

مشروع النهوض العربي وسؤال الحداثة بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس أمناء منظمة النهضة (أرض)

مشاركة

من بين الإشكالات المطروحة في الفكر النهضوي العربي المعاصر: هل يمكن الانتقال إلى الحداثة دون المرور بمحطة التنوير التي كانت الأرضية الفكرية التي مهدت في أوروبا للتحديث في معانيه الشاملة؟ في هذا السياق، نذكر دومًا التجربة الحداثية اليابانية التي هي أهم وأول تجربة تحديثية ناجحة خارج المجال الغربي، وإن تمت خارج قانون التتابع التاريخي الأوروبي أي رباعية النهضة، والإصلاح الديني، والتنوير والحداثة. سنؤجل لاحقًا الحديث عن النهضة اليابانية، لكن لا بد في المنطلق من الوقوف عند المحددات الإشكالية في علاقة التنوير بالحداثة.

لا يبدو الأمر سهلًا، ذلك أن مفهوم الحداثة نفسه قد تبلور على الأقل في اتجاهات أربعة متمايزة في الفكر الفلسفي والاجتماعي الغربي:

1.    الاتجاه الذي يعرف الحداثة باكتشاف قارة الذات والوعي، أي النزعة الإنسانية المرتكزة على أولوية ومرجعية الذات في نظام التفكير والممارسة، بما يقتضيه الأمر من إعلان حرية الإرادة وتحكمها في المعرفة والبناء السياسي والمجتمعي. ذلك هو التصور الذي يرجع إلى الفيلسوف الألماني هيغل في قراءته لمسار الحداثة الذي اعتبر أنه بدأ مع ديكارت “بطل الحداثة” حسب عبارته. من هذا المنظور، ليست حركة التنوير نفسها سوى نتاج هذه المرجعية الحداثية لكونها تطبيقًا لوعود مبكرة في فلسفة الوعي، إلى حد القول إن ثوار فرنسا هم مجرد ديكارتيين خرجوا محتجين ناقمين إلى  الشارع.

2.    الاتجاه الذي يربط الحداثة بنشأة العلم التجريبي والثورة التكنولوجية بما لهما من آثار نوعية على فهم الطبيعة وطريقة العيش الإنساني. ومن هذه الآثار، انهيار الكوسمولوجيا السابقة المتمحورة حول مركزية الإنسان، وتشكل النموذج التجريبي الموضوعي في المعرفة، وتطور وسائل وآليات التحكم في الطبيعة التي نتج عنها تغير الأنماط الاقتصادية والعمرانية للوجود البشري، بما فسح المجال أمام الثورة الصناعية الهائلة التي أخرجت العالم من الرتابة والجمود، وهيأته للتقدم والتنمية.

3.    الاتجاه الذي يفسر مسار الحداثة باستكشاف الأفق التاريخي في فهم وتصور الحالة الاجتماعية البشرية، بما يعنيه من قطيعة مع سلطة الماضي ورهان على حركة الزمن الإيجابية الفاعلة. فالحداثة حتى في تعبيرها اللغوي هي إدراك لهذا البعد الزمني المتحول، وتكريس لمرجعية الحاضر وانفتاح على المدى المستقبلي القادم.

4.    الاتجاه الذي يفسر الحداثة بعوامل تاريخية ظرفية مكنت أوروبا في عصر الاكتشافات الجغرافية الكبرى من السيطرة على العالم، والتفوق على الحضارتين الصينية الشرقية والعربية الإسلامية اللتين كانتا في العصور الوسطى منافستين لها ومتقدمتين عليها علميًّا واقتصاديًّا.

إن هذه التفسيرات تتأرجح بين المقاربة المفهومية النظرية التي ترى في الحداثة حالة فكرية وفلسفية ورؤية عالم كاملة، والمقاربة التاريخية الاجتماعية التي ترجعها إلى عوامل ظرفية خارجية غير جوهرية. ومهما كانت الزاوية التي ننظر منها إلى الحداثة، فإن السؤال الذي طرح بقوة في العقود الراهنة داخل الفكر الأوروبي المعاصر هو: هل الحداثة مرتبطة عضويًّا بالأفق المرجعي الغربي نظريًّا وقيميًّا أم هي حالة إنسانية كونية متاحة لكل الثقافات والمجتمعات باختلاف خصوصياتها الحضارية والمجتمعية؟

لنترك مؤقتًا موضوع التجارب الحداثية غير الغربية (أي الصينية، واليابانية، والهندية والآسيوية الشرقية، وغيرها) التي يتوقف تقويمها على الارتباط الإشكالي بين مسارات التنمية الاقتصادية والتطور العلمي التكنولوجي من جهة، والحالة الليبرالية السياسية والاجتماعية من جهة أخرى.

نكتفي هنا بالتعرض للخلفيات الفكرية والفلسفية للحداثة في محدّداتها الثلاثة التي أشرنا إليها من ذاتية واعية، وإرادة عامة مشتركة، وعقلانية تاريخية، لتحديد منزلتها في مشروع النهوض العربي.

أول ملاحظة نقدمها في هذا الباب، هي أن هذه الإشكاليات النظرية المعقدة غابت بصفة شبه كلية في الخطاب الإصلاحي العربي الذي تعامل مع الحداثة في جوانبها العملية التطبيقية، أي باعتبارها مكتسبات جاهزة للاستيراد والاستيعاب، من اكتشافات علمية، وتقنية، ونظم سياسية ومؤسسية.

لو رجعنا إلى الشخصيات الثلاث التي تحدث عنها المفكر المغربي المعروف عبد الله العروي في كتاب “لأيديولوجيا العربية المعاصرة” (صدر سنة 1967) وهي الشيخ والسياسي وداعية التقنية، لوجدنا أنها فشلت في بناء موقف عربي ناجع من مشروع التحديث. الفقيه حوّل الحداثة إلى سؤال الانحطاط والتجديد، والسياسي اختزلها في هدف الإصلاح السياسي الذرائعي، وداعية التقنية حوّلها إلى موضوع البناء الصناعي واستيراد الأدوات التقنية.

المفارقة الغريبة أن الفكر الفلسفي والاجتماعي العربي لم يعالج الاستحقاقات النظرية العميقة لإشكالية الحداثة إلا بصفة متأخرة، وفي إطار الجدل الراهن حول تركة الحداثة وبروز أدبيات “ما بعد الحداثة” في الكتابات الفلسفية والنقدية الغربية.

لقد أدى هذا الانزياح الزمني إلى بروز اختلالين ظاهرين في الخطاب العربي حول الحداثة:

1. اعتبارها لحظة متجاوزة يتعين القطيعة معها وعدم طلبها أصلًا، ما دام الغرب نفسه تجاوزها في عقلانيتها الأداتية وذاتيتها المركزية وتقنيتها المدمرة. ومن ثم، فإن “نهاية السرديات الكبرى” (جان فرانسوا ليوتار)، تحملنا على أن لا نتشبث بقيم وأفكار ظهر خطرها وزيفها في مهدها الأصلي. ومن هنا، يأتي المأزق التأويلي العربي في استيعاب وتقبل مشروع الحداثة والتحديث.

 

2. التبشير بمفهوم الحداثة الذاتية المختلفة عن الحداثة الغربية، والمستندة إلى مرجعية حضارية عربية إسلامية بديلة عن التجربة الأوروبية في فرديتها العدمية، ونزعتها التملكية للطبيعة واستبداديتها الرخوة المقنعة.

ما تتعين الإشارة إليه هو أن النزعة الثانية تتغذى من أفكار وأدبيات ما بعد الحداثة الغربية بداية من مدرسة فرانكفورت إلى الفلسفات التفكيكية الراهنة (ميشال فوكو وجاك دريدا وغيرهما)، كما هو جلي في أعمال عبد الوهاب المسيري مثلًا.

إن المشكل في هذه الأطروحة النقدية للحداثة يكمن في كونه يستعيد النقد الداخلي للحداثة الذي لا يدرك، ولا يفهم إلا في إطار تحولات وأزمات الحداثة الغربية نفسها، وكل محاولة لجرفه خارج هذا الحيز تنتج عنها معضلات نظرية وعملية معقدة سنقف عندها لاحقًا.