الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

مشروع النهوض العربي وسؤال الليبرالية بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس أمناء منظمة النهضة (أرض)

مشاركة

لا يمكن فصل النظرية الليبرالية عن مسالك الحداثة في منظورها الذاتي ورهانها على الحرية الفردية المعقلنة التي هي أساس النظام الاجتماعي المؤسس على القانون والرابطة المدنية.

ما تتميز به الفكرة الليبرالية هو النزعة الفردية التي تمنح الأولوية للحرية الشخصية في أبعادها الاقتصادية (الملكية الفردية)، والسياسية (الاختيار الحر) والقانونية (إرادة الذات المستقلة)، بحيث يكون النظام الاجتماعي والسياسي نتاج هذه الحرية ونمط التعبير عنها.

تنطلق الفكرة الليبرالية من كون الذات الحرة تمارس إرادتها بعقلانية وفق معايير المصلحة الترابطية الجماعية، بما يلغي التعارض الموهوم بين الذرية الانكفائية والطابع الاجتماعي المدني للظاهرة الإنسانية.

وعلى اختلاف المدارس الليبرالية على خط التمايز بين “ليبرالية الرغبات” و”ليبرالية الحقوق”، والليبرالية السلبية ذات المرجعية القانونية البحتة، والليبرالية الإيجابية التي تعترف بحق الدولة في التدخل لسد اختلالات التفاوت الاجتماعي، فإن الأرضية المشتركة لكل النزعات الليبرالية تتمثل في مبدأ الحرية الفردية ضمن نظام تعددي متسامح.

هل عرف مشروع النهوض العربي الفكرة الليبرالية؟ وهل استوعبها في نسيجه النظري والقيمي؟

يجيب المفكر المغربي عبد الله العروي على هذا الإشكال في كتابه “مفهوم الحرية”، مبيّنًا أن الفكر العربي المعاصر استبطن الحرية شعارًا، ومطلبًا اجتماعيًّا وسياسيًّا خارج الاستحقاقات الفلسفية والمفهومية للنظرية الليبرالية التي مرت في السياق الغربي بتحولات وإشكالات معقدة لم يستوعبها الإصلاحيون العرب.

وفي حين كانت الحرية سؤالًا ميتافيزيقيًّا ونفسيًّا في علم الكلام الإسلامي الوسيط، وفكرة الحرية في أبعادها السياسية والقانونية غائبة وإن كانت معاشة في تجارب عملية واجتماعية محدودة، فإن فكرة الحرية في مشروع النهوض العربي تحولت إلى مطلب للنخب السياسية بغض النظر عن جوانبها الفلسفية ذات الصلة بالذاتية، والإرادة الحرة، والفاعلية المدنية المستقلة عن الدولة وعن موضوعات العدالة التوزيعية والإنصاف.

لم تكن الليبرالية في حد ذاتها خط انتماء نموذجي، بل إن الأيديولوجيات النهضوية سارت في الغالب في اتجاه اشتراكي دولوي رافض للنظم الليبرالية في مقوماتها الاقتصادية والقانونية.

وفي بعض الساحات، أصبحت الليبرالية تحيل إلى الاتجاهات الجديدة في الإبداع الأدبي والنقد الأسلوبي والتنوير الثقافي، وفي ساحات أخرى أصبحت الليبرالية تتماهى مع مفهوم الحداثة والتحديث في مقابل التقليد والانغلاق التراثي.

لم تصبح الليبرالية حركية سياسية ومدنية قوية وفاعلة إلا مع مرحلة الانفتاح الديمقراطي التي مرت بها العديد من الدول العربية بداية من مطلع التسعينيات.

انتعشت الفكرة الليبرالية نتيجة لعوامل ثلاثة أساسية هي:

1.     انتشار المنظومة الفكرية لحقوق الإنسان التي أصبحت الأرضية الصلبة للمطالب والصراعات المدنية في العديد من البلدان العربية، وهي كما هو معروف العدة المعيارية والنظرية للفكرة الليبرالية.

2.     انبثاق بنيات دستورية جديدة تكرس الليبرالية التعددية كخيار مجتمعي وسياسي ضمن منظومة حزبية تضبطها ديناميكية انتخابية حرة.

3.     انهيار الأيديولوجيات الاشتراكية بامتداداتها في الساحة العربية، بما أعاد الاعتبار للنظرية الليبرالية التي تحولت مجددًا إلى واجهة التفكير الفلسفي والاجتماعي في سياق الجدل الذي ولدته نظرية الفيلسوف الأمريكي جون رولز حول العدالة.

لقد انجرت عن هذا الأفق الليبرالي الجديد إشكالات حيوية محورية من أبرزها: الحدود الفاصلة المقبولة بين المبادئ الفلسفية لليبرالية وتطبيقاتها الاجتماعية والسياسية، وعلاقة الليبرالية السياسية بالليبرالية الاقتصادية تلازمًا وانفصامًا، وطبيعة الخيار الليبرالي الملائم للبنيات المجتمعية العربية.

الإشكال الأول، انعكس أساسًا في العلاقة بين القاعدة الفكرية والمعيارية للديمقراطية التي تتعلق بالرؤية الليبرالية للعالم والجانب المسطري الإجرائي للديمقراطية من حيث هي مدونة انتخابية تنافسية تدير التعددية الاجتماعية القائمة. فإذا كان هذا الجانب الثاني لا يطرح عادة إشكالًا، فإن الجانب الأول يثير أسئلة نظرية معقدة تتصل بمسائل الذاتية وحرية الإرادة المطلقة، وحرية الوعي والضمير.

أما الإشكال الثاني، فهو من الموضوعات الجدلية المعروفة في الفكر الاجتماعي والسياسي المعاصر، وينطلق من النقاش حول مدى تلازم وترابط الليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية، إذ نلاحظ تلازمهما في المجتمعات الغربية (أوروبا الغربية، وأمريكا الشمالية بالإضافة إلى اليابان وكوريا الجنوبية)، في حين تمثل الصين التي هي من أقطاب المنظومة الاقتصادية الليبرالية المعولمة تحديًّا لهذا القانون التاريخي ودليلًا ملموسًا على إمكانية الجمع بين الليبرالية الاقتصادية والمركزية السياسية. إنّ هذا الإشكال يطرح راهنًا بقوة في السياق العربي في إطار مأزق التغيير الذي نجم عن تعثر ديناميكية الربيع العربي.

الإشكال الثالث، هو ما طرحته النظريات الأنثربولوجية والاجتماعية العربية حول عوائق استنبات الأفكار والنظم الليبرالية في أرضية تحكمها المعايير العشائرية والعصبية والثقافة الأبوية والإطلاقية التي لا مكان فيها للذات الفردية المستقلة، ونسبية الاعتقاد وحرية الوعي (هشام شرابي، وحلمي بركات، وصادق جلال العظم، وغيرهم).

إنّ هذه الإشكالات الثلاثة تحدد الإطار النظري والجدلي الراهن حول المسألة الليبرالية في الخطاب النهضوي العربي المعاصر.

وما يتعيّن التنبيه إليه هنا هو أن استيعاب المنظومة الليبرالية في مشروع النهوض العربي يقتضي القيام بخطوتين أساسيتين ومتلازمتين هما:

أولًا: فك التصادم النظري والمعياري بين الرؤية الليبرالية للعالم ومقتضيات الإصلاح السياسي والاجتماعي. المطلوب هنا هو التفاعل الإيجابي مع قيم الفردية والذاتية والحرية من داخل النسق المرجعي للثقافة العربية الإسلامية المعاصرة، بما لا يتم دون حركية تجديد فلسفي وديني عميقة من منطلقات تأويلية رحبة لا تزال في بداية التشكل.

ثانيًا: العمل بالتوازي على التنمية الاقتصادية والاجتماعية الفاعلة بمفهومها الإنساني الواسع المتضمن الحقوق الفردية والجماعية باعتبارها هي الشرط الضروري للبناء السياسي المتماسك والمستقر، وتدعيم منظومة المشاركة الشعبية الحرة بما تقوم عليه من حريات عامة في مستويات التعبير، والاختبار، والتداول السلمي على السلطة. ومن المؤكد أن الديناميكتين متداخلتان ومتلازمتان على المدى الطويل كما يظهر من تجارب النهوض والتحديث الناجحة في العالم.

خلاصة الأمر أن مشروع النهوض العربي المستقبلي لا يمكن أن يتشكل وينجح بمنأى عن المطلب الليبرالي، لكن المقارنات المتاحة أثبتت أن التجارب الليبرالية متعددة ومتنوعة بحسب السياقات الاجتماعية والثقافية والتاريخية، ولا مانع من تصور واستنباط المسلك الليبرالي العربي في خصوصيته وتميزه.