الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

مشروع النهوض العربي ومسألة العلمانية بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس أمناء منظمة النهضة (أرض)

مشاركة

من المفاهيم الملتبسة في الفكر العربي المعاصر إشكالية العلمانية التي طرحت اصلًا في سياق تاريخي شديد الحساسية والتعقيد هو لحظة إلغاء الخلافة سنة 1923، أي القضاء على آخر إمبراطورية مسلمة وهي الخلافة العثمانية.

ومع أن الدولة العثمانية قد تفكّكت عمليًّا منذ أمد طويل، وتسارع انهيارها منذ نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إلا أن نهايتها خلفت جرحًا عميقًا في الوعي الإسلامي لما كانت تعنيه من وحدة الدار، والدين والأمة.

وفي حين طرح موضوع العلمانية في التجربة الأوروبية ضمن نطاق مقتضيات الخروج من الحروب الدينية في مجتمعات أصبحت تتسم بالتعددية والتنوع، فإن الإشكال نفسه طرح في اتجاه مغاير في السياق العربي حيث الهم المحوري يتعلق بشرعية الدولة الوطنية ونمط علاقتها بالمجتمع والأمة.

ذهب العديد من علماء الإسلام المعروفين إلى الوقوف ضد كتاب الفقيه الأزهري علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم” الصادر سنة 1925، باعتباره نظر إلى الخلافة من حيث هي شكل تاريخي متجاوز لا يعبر عن مرجعية الدين ولا يتماهى معه.

والمثير في الموضوع، أن انزياحًا دلاليًّا نوعيًّا ظهر في كتابات العلماء الذين ردوا على عبد الرازق، بتحميل أدبيات الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية مضامين جديدة، تنقل مفهوم الإمامة إلى التصور السياسي للدولة الحديثة الشمولية المعبرة عن هوية الكيان القومي، وتنقل مفهوم الأمة من الرابطة الدينية المشتركة إلى الرابطة المدنية السياسية الجماعية.

لقد تزامن هذا التحول المفهومي مع كتابات الاستشراق الأولى حول الفكر السياسي الإسلامي، التي شاعت فيها أطروحة التلازم العضوي بين العقدي، والقانوني والسياسي في الإسلام، على عكس المسيحية التي هي “ديانة الخروج من الدين” حسب عبارة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر.

لم يظهر جهد كبير في الفكر الإسلامي المعاصر لاعتراض هذا التوجه، بل إن الأدبيات القانونية والدستورية التي ظهرت في تلك المرحلة (أهمها كتاب عبد الرزاق السنهوري: فقه الخلافة وتطورها، الذي نشر أول مرة سنة 1926)، عززت هذا التصور حول المضمون القانوني والسياسي لنمط الاعتقاد الإسلامي.

وفي حين ظهر خطاب إسلامي مؤدلج واسع النطاق يرفع شعار “الإسلام دين ودولة” كرسته أدبيات الإخوان المسلمين منذ مؤسس الجماعة حسن البنا، اتسمت الكتابات العلمانية الأولى في الفكر العربي (شبلي شميل وسلامة موسى، وغيرهما) بنفسٍ وضعي تاريخاني معادٍ للدين، بما يعني أن خطاب العلمنة في الخطاب العربي المعاصر اتسم في منطلقه بالاشتباك مع المرجعية العقدية والقيمية للإسلام، ولم يكن الإطار القانوني والسياسي للدولة المدنية الليبرالية هو محور اهتمامه.

لم تكن الصيغ والسياسات العملية والمؤسسية للدولة الحديثة مدار اعتراض، بل إن الفكر الإصلاحي منذ الطهطاوي، وخير الدين التونسي، والإمامين  الأفغاني  ومحمد عبده، تبنى بقوة مبادئ الحرية السياسية، والفصل بين السلطات وفكرة المواطنة المتساوية، وذهب إلى تأصيلها دينيًّا، دون أن يكون موضوع إقصاء الدين من الشأن العمومي خيارًا مطروحًا بالنسبة له.

بل إن الأنظمة السياسية التي تداولت على الحكم في البلدان العربية منذ قيام الدولة الوطنية الحديثة ذهبت إجمالًا في بنياتها الدستورية والقانونية إلى اعتماد الإسلام دينًا للدولة ومصدرًا للتشريع. ومن الواضح أن هذه المقاربة تستند إلى خلفية مزدوجة هي: مكانة ودور الدين في تعزيز الهوية الوطنية واللحمة الاجتماعية في بلدان متنوعة قوميًّا واجتماعيًّا يجمع الإسلام بين مكونات نسيجها الداخلي، وحرص الدولة على وضع يدها على الحقل الديني وإلحاقه مؤسسيًّا بهياكلها الإدارية والتنظيمية ضبطًا لمخاطر التمرد والانقلاب من داخل المجتمع الأهلي، أو عبر التنظيمات الأيديولوجية المسيسة.

وهكذا اعتبر المفكر التونسي هشام جعيط في نهاية الستينيات أن الدولة العربية المركزية لا يمكن أن تكون علمانية بالمفهوم الأوروبي لأنها خرجت من رحم الدين وتلبست رمزيته المجتمعية. بل إن عالم الاجتماعي التركي البارز “شريف مردين”، بيّن في كتاباته المهمة حول الدولة التركية المعاصرة أن الكيان الوطني العلماني الذي أقامه مصطفى كمال أتاتورك يستند في أعماقه إلى شرعية دينية خفية من منظور كونه تأسس على وحدة الدين على أنقاض إمبراطورية متنوعة الانتماءات العقدية، بحيث ترجم العامل الديني إلى أساس هوية وطنية صلبة هي الهوية التركية مقابل المنظومة السلطانية العثمانية.

وهكذا، لم تبرز إشكالية العلمانية بمعنى إقصاء الدين من المجال العمومي وحياد الدولة تجاه مختلف المذاهب المعيارية والتصورات العقدية إلا في العقود الأخيرة في إطار النقاش الحاد حول مرجعيات الدولة الليبرالية الديمقراطية.

ولا شك في أن كتاب “العلمانية من منظور مختلف”، الذي أصدره “عزيز العظمة” عام 1992، محطة أساسية في هذا التفكير الجديد في المسألة العلمانية في بعديها: خروج الدين من الميدان العمومي، وتحرر المجتمع من قبضة المؤسسة الدينية.

ولقد أثار هذا الكتاب جدلًا واسعًا، لربطه بين الديمقراطية التعددية والفلسفة الليبرالية في مقوماتها الفلسفية العلمانية. لقد اعتبر البعض أن العلمانية ليست مطلبًا موضوعيًّا في المجتمعات العربية التي تحتاج جوهريًّا إلى العقلانية والديمقراطية في تصور وضبط السياسات العمومية (محمد عابد الجابري)،  في حين ذهب اتجاه آخر إلى أن الحل العلماني متعذّر في المجتمعات المسلمة لأسباب بنيوية تعود إلى طبيعة الدين وأحكامه الشرعية (محمد أركون) ، وذهب اتجاه ثالث إلى التمييز بين العلمانية الجزئية التي لا تصطدم بالدين والعلمانية الشاملة المعادية له (عبد الوهاب المسيري).

في هذا الحوار المتشعب، غاب التفكير المعمق في المسألة الدينية السياسية في الفكر الغربي المعاصر، إذ نلمس مسارين للعلمانية: مسار الفصل والقطيعة الذي عبر عنه فيبر بالعقلنة الطبيعية والإنسانية التي هي أساس الشرعية القانونية للدولة القومية الحديثة، ومسار النقل والاستيعاب الذي كشف عنه الفيلسوف والقانوني الألماني كارل شميت في ضبطه لمفاهيم العقل السياسي الحديثة من حيث هي مفاهيم لاهوتية معلمنة (طوّر الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن هذه الأطروحة في سلسلة القربان البشري).

ليست العلمنة إذن قطيعة بالكامل مع الدين وإن كانت فصلًا مؤسسيًّا وقانونيًّا بين هياكل الاعتقاد وتدبير الشعائر ودوائر المجال العمومي. إنها بلغة كانط ترجمة للمضامين العقلية في الأنساق اللاهوتية إلى لغة العقل العمومي.

ومن هنا بلور يورغن هابرماس نظريته في “المجتمعات ما بعد العلمانية” (post secular society)، التي تمنح المذاهب الدينية حق المشاركة في المجال العمومي ضمن مقاييسه التداولية وعبر أدواته العقلانية.

إن هذه التحولات النظرية تحملنا على العودة برؤية جديدة إلى المسألة العلمانية في إطار التفكير في استئناف المشروع النهضوي العربي.