الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

ملاحظات حول مشروع الممر الهندي الخليجي الأوروبي، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

انعقدت في نيودلهي يومي 9 و10 أيلول/ سبتمبر القمة الثامنة عشرة لمجموعة العشرين. وبينما كان الجدل ما يزال محتدمًا حول ما إذا كان بمقدور هذه القمة إصدار بيان ختامي يعبر عن توافق آراء المشاركين حول الموضوعات المدرجة على جدول الأعمال، خاصة ما يتعلق منها بالحرب في أوكرانيا، إذا بانتباه العالم يتركز فجأة على اجتماع آخر عقد على هامشها، وضم قادة كل من الولايات المتحدة الأمريكية، والهند، والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. ففي أعقاب هذا الاجتماع تم الكشف عن مشروع عملاق يقضي بإنشاء ممر اقتصادي يربط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وهو المشروع الذي بدأ البعض يطلق عليه “طريق التوابل”، للتمييز بينه وبين “طريق الحرير” القديم الذي قررت الصين إعادة إحيائه عام 2013 تحت مسمى “الحزام والطريق” وأنفقت عليه حتى الآن ما يقرب من تريليون دولار. ويتضح مما نشر عن هذا المشروع الجديد حتى الآن أنه يتكون من ثلاثة ممرات أو مسارات منفصلة ومتكاملة في الوقت نفسه. الممر الأول: شرقي، يستهدف تشييد خط بحري يبدأ من المواني الهندية وينتهي عند ميناء “جبل علي” في دولة الإمارات العربية، والممر الثاني: جنوبي، يستهدف تشييد خط سكة حديد يمتد من دولة الإمارات إلى أن يصل إلى ميناء حيفا المطل على البحر المتوسط، مخترقًا أراضي كل من المملكة العربية السعودية، والمملكة الأردنية وإسرائيل، والممر الثالث: شمالي، ويستهدف تشييد خط بحري يربط بين إسرائيل والدول الأوروبية. ويهدف هذا المشروع إلى إنشاء خطوط للسكك الحديدية وربطها بالمواني البحرية، من أجل تدعيم عملية التبادل التجاري، ونقل الكهرباء، والهيدروجين النظيف، والنقل الرقمي للمعلومات عبر الربط والنقل الرقمي للبيانات من خلال كابلات الألياف البصرية.

وفي تقديري أن هذا المشروع يثير جملة من الملاحظات، يمكن أن نجملها فيما يلي:

الملاحظة الأولى: تتعلق بالقوة الدافعة وراء هذا المشروع. فالمعلومات الصحفية المتاحة حوله حتى الآن تفيد بأنه مشروع أمريكي أولًا وقبل كل شيء، تم تصميمه في الولايات المتحدة، ومنها جرى تسويقه إلى بقية الدول المعنية. حيث بدأت إدارة بايدن تخطط له منذ شهور طويلة. ففي تموز/يوليو عام 2022، أدلى بايدن بتصريحات تحدث فيها عن حاجة دول منطقة الشرق الأوسط الماسة إلى تكثيف عمليات التكامل الاقتصادي فيما بينها وإلى ربط اقتصادياتها أكثر بالاقتصاد العالمي ككل، لكنه لم يفصح في ذلك الوقت عن أي تفاصيل. وفي كانون الثاني/يناير الماضي، وعندما أصبحت معالم هذا المشروع أكثر وضوحًا وتحديدًا في ذهن إدارة بايدن، بدأت تجري مشاورات تمهيدية مع الدول المعنية، طرحت خلالها تصورها الأولي لهذا المشروع ولأهميته بالنسبة لكل الدول المشاركة وسعت للحصول على موافقتها على الفكرة من حيث المبدأ ثم، وبحلول الربيع الماضي، شرعت هذه الإدارة في إعداد الخرائط والتقييمات الفنية للبنية التحتية المتوافرة في منطقة الشرق الأوسط، خاصة ما يتعلق منها بالسكك الحديدية، وما أن اكتملت اللمسات الأخيرة لهذه التفاصيل الفنية حتى قام كل من جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي، وبريت ماكجورك، منسق شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، وعاموس هوكستين، مستشار البنية التحتية العالمية وأمن الطاقة، بجولة في المنطقة خلال شهر أيار/مايو الماضي، التقوا خلالها بالمسؤولين في كل من السعودية، والإمارات وإسرائيل الهند، تم خلالها الاتفاق على أن يتم الإعلان عن إطلاق هذا المشروع رسميًا عقب اجتماع خاص يعقد لهذا الغرض بين قادة الدول الأربع على هامش اجتماع قمة العشرين. من هنا، ينبغي النظر إلى هذا المشروع باعتباره أحد مكونات الرؤية الاستراتيجية الأمريكية التي تسعى لتحقيق عدة أهداف في الوقت نفسه: 1- عرقلة النمو الصيني، بالعمل على إيجاد مشروعات منافسة لمشروع “الحزام والطريق” وربما أيضًا تأجيج الخلافات بين الصين والهند للحيلولة دون حدوث أي تقارب بينهما. 2- عزل إيران والعمل على محاصرة نفوذها في المنطقة من خلال عرقلة مشروعاتها الاستراتيجية الرامية لتزويد أوروبا بالنفط والغاز عبر خطوط نقل تمتد من أراضيها حتى شواطئ البحر المتوسط، مرورًا بالعراق، وسوريا ولبنان. 3- تعميق علاقات التعاون القائمة بين بعض الدول العربية وإسرائيل، والعمل على توسيع نطاق اتفاقات أبراهام للتطبيع مع إسرائيل، بضم السعودية إليها. 4- الرد على الصفعة التي وجهتها الصين للإدارة الأمريكية، حين نجحت في التوسط بين إيران والمملكة السعودية وتمكنت من إقناعهما باستعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة فيما بينهما.

الملاحظة الثانية تتعلق بالتأثيرات السلبية المحتملة لهذا المشروع على مصر. فبمجرد الإعلان عن إطلاق هذا المشروع ظهرت تعليقات عديدة في وسائل الإعلام العربية تؤكد أنه سيلحق ضررًا بالغًا بمصر وسيؤدي إلى تهميش دور ومكانة قناة السويس، في الوقت الذي سيساعد فيه إسرائيل على أن تصبح هي حلقة الوصل الرئيسية بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب. ضاعف من حدة الشعور بالقلق ما صدر عن بنيامين نتانياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، من تصريحات فورية مرحبة بهذا المشروع، ربما بطريقة مبالغ فيها تمامًا، حين وصفه بأنه “أكبر مشروع تعاون في تاريخ إسرائيل”، وبأنه “يأخذ المنطقة إلى حقبة جديدة من التكامل والتعاون الإقليمي والعالمي غير المسبوق”. من هنا اعتقاد كثير من المحللين العرب أنه حلقة في سلسلة المشروعات الرامية إلى محاصرة مصر وتهميش دورها في المنطقة. ومع ذلك تقضي متطلبات العدالة والإنصاف أن نشير هنا أنه إلى وجود وجهة نظر أخرى تشكك في قدرة هذا المشروع على منافسة قناة السويس بأي حال من الأحوال، وتؤكد على أن هذه القناة ستظل هي الشريان الذي لا يمكن للتجارة العالمية أن تستغني عنه بأي حال من الأحوال. وقد استندت وجهة النظر هذه إلى أن تكلفة نقل البضائع عبر خطوط السكك الحديدية ستكون أعلى بكثير من تكلفة نقلها عبر البواخر العملاقة التي يمكنها المرور الآن من قناة السويس. وأيًا كان الأمر فلا شك في أن هذا موضوع خطير يستحق المتابعة الدقيقة دون تهوين أو تهويل.

الملاحظة الثالثة تتعلق بتأثيرات المحتملة حول التحولات الراهنة في النظام الدولي والتي تستهدف نقله من نظام أحادي إلى نظام متعدد القطبية. فمن الواضح تمامًا أن الولايات المتحدة تسعى من خلال هذا المشروع إلى إعادة ترتيب أوراقها والاستعانة بحلفائها لتمكينها من استمرار هيمنتها المنفردة على النظام الدولي لأطول فترة ممكنة. ذلك أن الهدف الأساسي لهذا المشروع، وكما سبقت الإشارة، هو محاصرة الصين، وإضعاف إيران واستعادة السعودية إلى حظيرة نفوذها، وذلك بتقوية مركز ودور كل من الهند، وإسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة. بعبارة أخرى يمكن القول إن الولايات المتحدة تريد أن تستثمر صعود الهند في النظام الاقتصادي العالمي لخلق مركز ثقل سياسي جديد مواز ومناهض للثقل الصيني الذي يسعى لمد نفوذه إلى كل مكان في العالم من خلال مبادرة “الحزام والطريق”. فقد أصبحت الهند حاليًا خامس أكبر اقتصاد في العالم، متفوقةً على المملكة المتحدة، وتشير بعض التقديرات إلى أنها ستتفوق على ألمانيا بحلول عام 2028، خاصة وأنها حققت خلال السنوات الأخيرة معدلات نمو قوية، بلغت نحو 9% خلال عام 2022. وإذا استمرت في النمو وفق هذا المعدل، فقد يصبح الاقتصاد الهندي بحجم اقتصاد منطقة اليورو بحلول منتصف القرن الحالي. صحيح أن المشروعين (الحزام والطريق، من ناحية، والممر الاقتصادي، من ناحية أخرى) يشتركان معًا في مسألة أساسية، وهي أنهما يتمحوران حول البنية التحتية العابرة للبلدان، لكن توجد مع ذلك فوارق جوهرية بينهما. فمبادرة الحزام والطريق مشروع صيني يستهدف إيجاد شبكة تواصل عالمية بؤرتها الصين، في حين أن “طريق التوابل” مشروع متعدد الأطراف والمحاور وبالتالي أقرب ما يكون إلى مشروع شراكة عالمية لها تعقيداتها. بعبارة أخرى، يمكن القول إن المقارنة الموضوعية بين المشروعين تكشف، في تقديري،  عن خلل كبير في بنية المشروع الذي تسعى الولايات المتحدة لتسويقه حاليًا. فمشروع “الحزام والطريق” يتمحور حول دولة مركزية واحدة هي الصين، والتي ينطلق منها، رؤية وتخطيطًا وتنفيذًا وتمويلًا، ثم يعود إليها بعد أن يكون قد تمكن من ربط البنية التحتية لمختلف أطراف العالم بهذه الدولة التي تتولى بنفسها تصميمه وتمويله عبر اتفاقات ثنائية مع كل المستفيدين، ووفقًا لقاعدة المصالح المتبادلة والمتكافئة. أما المشروع الجديد فيعتمد تنفيذه على إرادة أطراف دولية عديدة قد لا يكون من السهل تحقيق التوافق بينها في كل الأوقات. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أنه يبدو، في بعض جوانيه على الأقل، وكأنه محاولة التفافية لدفع عملية تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، وهي مسألة لا تزال تكتنفها صعوبات هائلة لم تحسم بعد، لتبين لنا أن هذا المشروع ربما ينتمي إلى عالم الأحلام والتمنيات أكثير من انتمائه إلى عالم الحقيقة والواقع.

وإذا كان هناك من درس يتعين على قادة العالم العربي استخلاصه من هذا المشروع الأمريكي الجديد فهو أن المصالح الإسرائيلية والتمكين لدولة إسرائيل كي تصبح هي القوة الرئيسية وضابط الإيقاع الرئيسي لتفاعلات المنطقة هو أهم ما يشغل تفكير الإدارات الأمريكية المتعاقبة. فمتى نستوعب الدرس؟