الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

هل يحتمل العالم العربي مزيدًا من تفكك السودان؟، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

سادت في العالم العربي خلال الشهور الأخيرة أجواء من التفاؤل باحتمال دخول المنطقة مرحلة تهدئة للصراعات المحتدمة بين دولها وشعوبها توطئة لمعالجة هذه الصراعات من جذورها وتهيئة المنطقة للتمتع بحالة من الاستقرار القابل للدوام. عاملان رئيسيان بررا هذه الحالة التفاؤلية وساعدا على انتشارها:

أولهما: الجهود الناجحة التي بذلت لتهدئة الصراعات العربية- العربية، وهي جهود حظيت بقوة دفع كبيرة عقب نجاح قمة العلا الخليجية التي انعقدت في بداية 2021 في تفكيك الأزمة الناجمة عن حصار قطر، ما أعاد قدرًا من التماسك المفقود إلى مجلس التعاون الخليجي أولًا، ثم إلى جامعة الدول العربية التي أصبحت أجواء العمل فيها مهيئة أكثر لانعقاد القمم العربية بعد فترة توقف كاد أن يصيبها بالشلل، ثم تواصلت هذه الجهود إلى أن وصلت ذروتها بانفتاح دول عربية عديدة على سوريا التي أصبح من المرجح دعوتها للمشاركة في القمة العربية المقرر عقدها في الرياض خلال شهر أيار/ مايو القادم، وذلك بعد فترة غياب سوري عن الجامعة دامت لأكثر من عشر سنوات، ما أعاد إحياء الأمل حول إمكانية إعادة تنشيط العمل العربي المشترك من جديد، خاصة وأن المحور السعودي المصري السوري، المؤهل أكثر من غيره لقيادة وتفعيل النظام الإقليمي العربي الرسمي، بات أكثر قابلية للتفعيل.

ثانيًا: الجهود الناجحة التي بذلت لتهدئة الصراعات العربية الإيرانية، من ناحية، والصراعات العربية التركية، من ناحية أخرى. فالجهود التي بذلت لتهدئة الصراعات مع إيران حظيت بقوة دفع كبيرة بعد أن قررت الصين الدخول على الخط ونجحت في استضافة مؤتمر في بكين عقد في 10 نيسان/أبريل الماضي وأسفر عن التزام الطرفين السعودي والإيراني بإعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ سبع سنوات، الأمر الذي خلق على الفور أجواء مواتية لتهدئة حدة الصراعات المشتعلة في مناطق مختلفة من العالم العربي، شملت اليمن، وسوريا، والعراق ولبنان وغيرها. أما الجهود التي بذلت لتهدئة الصراعات مع تركيا فقد حظيت بقوة دفع كبيرة عقب نجاح الجهود التركية الرامية إلى تصفير صراعاتها مع دول المنطقة، خاصة حين أسفرت هذه الجهود عن تبادل الزيارات بين وزيري خارجية تركيا ومصر، الأمر الذي انعكس على الفور في تهدئة عدد من الصراعات المشتعلة في المنطقة، خاصة في شرق البحر المتوسط، وليبيا وسوريا وغيرها.

هذه الأجواء التصالحية، والتي لم تكن قد أتت كل أكلها بعد، أصبحت الآن مهددة بالتوقف وربما بالانهيار التام بسبب اشتعال صراع مسلح خطير بين القائد العام للجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، من ناحية، وقائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، من ناحية أخرى، قد يؤدي إلى كارثة كبرى ليس لشعب السودان فحسب وإنما للعالم العربي بأسره، خاصة وأنه صراع مرشح للتطور على نحو قد يفضي في نهاية المطاف إلى تفكك السودان إلى عدة دويلات أخرى بعد انفصال الجنوب عنه في مرحلة سابقة، وهو ما لا يستطيع العالم العربي أن يحتمله في الظروف الهشة الراهنة. فهذا الصراع الجديد، والذي يبدو في ظاهره صراعًا على السلطة بين قيادتين عسكريتين تحركهما طموحات ومطامع شخصية، يخفي وراءه صراعات تاريخية أكثر عمقًا بين قوى السودان المدنية وقواته العسكرية من ناحية، وداخل صفوف القوى المدنية نفسها بين القوى العلمانية وقوى الإسلام السياسي، خاصة بين القوى التقليدية والقوى الحداثية، من ناحية أخرى، بالإضافة إلى صراع جهوي بين قوى انفصالية تحمل السلاح في وجه الدولة وقوى وحدوية يجسدها الجيش الوطني السوداني من ناحية ثالثة. ولأن السودان دولة متعددة الأعراق، والقوميات، والثقافات، والطوائف والأديان، فشلت فيها كافة الجهود الرامية إلى إقامة دولة مدنية ديمقراطية حديثة تتناوب النخب السياسية حكمها بطريقة سلمية، فقد اختلطت فيها الصراعات السياسية والأيديولوجية بالصراعات العرقية والقبلية والطائفية والدينية، وتعاقبت عليها الانقلابات العسكرية والثورات الشعبية، وانتشرت في أرجائها الحركات الانفصالية المسلحة، خاصة في مناطق دارفور وكردفان والنيل الأبيض وغيرها، حيث نجحت إحداها في فصل جنوب السودان فعلًا منذ عدة سنوات، بل وتكاد الأبعاد المعقدة والمتشابكة لهذه الصراعات المتداخلة تحيل السودان إلى دولة فاشلة. فالحكم العسكري، والذي هيمن على الحياة السياسية في السودان لما يقرب من ستة عقود، فشل رغم استبداده الواضح في إيجاد نظام حكم مستقر وقابل للدوام، والحكم المدني، والذي لم يتمكن من الاحتفاظ بالسلطة إلا لفترة تقل عن عقد من الزمان، فشل بدوره في إقامة نظام ديمقراطي مستدام، وما تزال القوات المسلحة والأجهزة الأمنية هي القوة الأكثر ثقلًا وتأثيرًا في معادلة السودان السياسية.  ولأن السودان دولة هامة جدًا في العالم العربي، فإن الصراع المسلح الذي يدور فيها حاليًّا لا يهدد شعب السودان وحده وإنما يهدد مستقبل العالم العربي كله دون أي مبالغة.

لقد كان السودان، قبل انفصال الجنوب عنه، يعد واحدًا من  أكبر الدول العربية والإفريقية مساحة وما زال، حتى بعد انفصال الجنوب، دولة كبيرة وغنية تحتوي على ملايين الأفدنة من الأراضي القابلة للزراعة والأكثر خصوبة في العالم، بل وينظر إليه باعتباره الدولة العربية الوحيدة القادرة على توفير احتياجات العالم العربي كله من الغذاء، فضلًا عن احتوائه على ثروات هائلة من المعادن والمواد الأولية الهامة التي ما تزال غير مستغلة إلى حد كبير، كالذهب والفضة والكروم والنحاس والحديد. وللسودان أيضًا أهمية استراتيجية كبرى على الصعيد الجيوسياسي، بحكم إطلالته الواسعة على البحر الأحمر وقربه من قناة السويس ومن القرن الإفريقي ومن الخليج العربي ومن باب المندب، وهي طرق رئيسية للتجارة والمواصلات العالمية، ما يفسر سهولة تحوله إلى ساحة للصراع على النفوذ بين القوى العالمية والإقليمية الكبرى. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن السودان، الدولة العضو في جامعة الدول العربية يعتبر الجسر الأكثر امتدادًا داخل العمق الإفريقي، خاصة دول شرق إفريقيا، لاتضحت لنا بصورة أكبر حجم الأهمية الجيوسياسية للسودان بالنسبة للعالم العربي. وهنا تتجلى خطورة الصراع الدائر حاليًّا والذي يهدد السودان فعليًّا بمزيد من التفكك. فهذا الصراع، بجذوره التاريخية المتشعبة الأكثر عمقًا والتي سبقت الإشارة إليها، له امتدادات إقليميمهمةة ودولية، ومن ثم يتوقع أن يكون لما قد يؤدي إليه من تفكك محتمل للدولة السودانية ارتدادات سلبية هائلة على العالم العربي. فمن شأن هذا التفكك أن يتيح لإثيوبيا الواقعة عند منابع نهر النيل حرية أوسع للتحكم في تدفق مياه النهر، ما سيشكل تهديدًا كبيرًا للأمن القومي المصري، خاصة في ظل حالة عدم الاستقرار القائم حاليًا في ليبيا، الجناح الغربي لأمن مصر القومي، وهشاشة الوضع الأمني في سيناء، الجناح الشرقي لهذا الأمن. خاصة في ظل وضعها الحالي كمنطقة منزوعة السلاح، وسيمكن إسرائيل في الوقت نفسه من مواصلة اختراقها للعمقين العربي والإفريقي بسهولة أكبر، والتغلب بالتالي على بعض الصعوبات الأمنية المستحدثة الناجمة عن تحسن العلاقات السعودية الإيرانية، ما سيتيح لها حضورًا أكبر وأقوى تأثيرًا في المنطقة المتاخمة لباب المندب ومضيق هرمز، وبالتالي الاقتراب أكثر من الحدود الإيرانية. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن تفكك السودان سيعرض الاستثمارات الخليجية الكبيرة هناك لمخاطر مؤكدة، لتبين لنا أن العالم العربي بأسره سيكون الخاسر الأكبر في حال استمرار وتفاقم الصراع الحالي في السودان إلى درجة تؤدي إلى تهديد وحدة بلد عربي على هذا القدر من الأهمية.

لا يخفى على أحد وجود بعض التعارض أو على الأقل عدم التطابق أو غياب التوافق في السياسات التي تنتهجها الدول العربية الأكثر تأثيرًا على ما يجري حاليًا في السودان، خاصة مصر والسعودية والإمارات وقطر، لكن ليس من مصلحة أي من هذه الدول استمرار الصراع المسلح الراهن في السودان، والذي قد يؤدي تفاقمه إلى تهديد السودان بالتفكك الفعلي. لذا ينبغي على قادة هذه الدول الأربع بالذات أن يكونوا على مستوى المسؤولية وأن يسارعوا بعقد اجتماع قمة عاجل فيما بينهم بهدف التوصل إلى أرضية مشتركة تسمح ببلورة سياسة موحدة تجاه الأزمة الراهنة في السودان وتوليد ما يكفي من آليات الضغط لإقناع طرفي الصراع بوقف فوري للقتال المشتعل حاليًا، والعمل على جمع كل الأطراف السودانية المعنية حول خارطة طريق واقعية ينبغي أن تفضي إلى تحقيق هدفين رئيسيين، الأول: التوحيد الفوري للجيش السوداني، والثاني: بدء مرحلة انتقالية تديرها حكومة تكنوقراط متوافق عليها من جميع الأطراف تتولى مسؤولية إعداد دستور تجرى على أساسه انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة تضع الأساس لنظام سياسي مدني قابل للاستمرار ويساعد على تفرغ الجيش السوداني الموحد لمهامه الوحيدة المتمثلة في تأمين البلاد في مواجهة الأخطار الكبيرة المحدقة بها.

قد يرى البعض في هذا النوع من الأطروحات مجرد أحلام طوباوية بعيدة المنال وغير قابلة للتحقيق، لكني أعتقد أنها الطريق الوحيد لتجنب أخطار كبرى ما تزال تحاصر عالمنا العربي وتصر على استمرار حالة الفوضى التي تسوده منذ أكثر من عقد من الزمان. وفي تقديري أن السودان وشعبه يستحقان من قادة هذه الدول الأربع أن يبذلوا كل ما في وسعهم لوقف القتال الدائر حاليًا وفتح الطريق نحو تسوية لن يستطيع العالم العربي بدونها أن يواصل طريقه نحو تهدئة الصراعات المشتعلة حاليًا في قلبه وعلى أطرافه.