عقدت منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية (أرض) وضمن سلسلة حوارات النهضة، ندوة رقمية بعنوان “إنهاء استعمار النهضة: نحو إبداع إنساني عالمي”، برعاية السفير الإيطالي في الأردن، فابيو كاسيزي، ومشاركة الدكتور عامر السبايلة، برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مركز ستيمسون من الأردن، والأستاذ الدكتور رافاييل فيديريتشي من جامعة بيروجا في إيطاليا، والأستاذ الدكتور د. محمد حصحص من قسم العلوم السياسية، جامعة لويس في إيطاليا.
أدارت الندوة فرانشيسكا ألبانيز، منسقة برنامج القضية الفلسطينية في منظمة النهضة (أرض)، والتي بينت أن الندوة سعت لاستكشاف معنى النهضة العربية في ضوء تطورها التاريخي والمقاربة مع النهضة الإيطالية، وربطها بالسياق الاجتماعي السياسي الحالي في المنطقة العربية لاستقراء دروس التاريخ وكيف يمكن من خلال تفكيك الطبيعة الاستعمارية لعصر النهضة في إعادة صياغة قيمها السياسية المهمة.
هذا واستعرض السفير كاسيزي في كلمته الافتتاحية ملامح النهضة الإيطالية وإسهاماتها في التبادل الثقافي الذي لم يكن ليحدث لولا التبادل مع العالم العربي في ذلك الزمن مشيراً إلى اتحاد النهضة العربية والإيطالية في مفهومهما عن النهضة، مشيراً إلى طموح النهضتين بإحداث تغيير عميق في مجتمعاتهما. كذلك، شدد كاسيزي على ثلاثة جوانب مهمة للنهضة الإيطالية: يتعلق الجانب الأول بدور المرأة في النهضة الإيطالية بما في ذلك ارتقاؤها مجتمعياً من خلال التعليم، مشيراً إلى أنه على الرغم من كونها الأفضل تعليماً بين مثيلاتها من النساء في العصور الوسطى، إلا أنها كانت ما تزال تمارس دورها الاجتماعي المتمثل في البقاء في المنزل ورعاية الأسرة؛ أما الجانب الثاني، فيتعلق بمحورية العلاقة بين النهضة والكنيسة في انبعاث هذه الأولى، والدور الهام الذي لعبه المتدينون في إتاحة الثروة المعرفية التي كانت محفوظة في الأديرة حتى ذلك الحين للآخرين. بهذه الطريقة، عزز ربط الدين بالإنسانية من إمكانية الوصول إلى المعرفة، مع إتاحتها لأكبر عدد ممكن من الناس. أما الجانب الثالث فتمثل برعاية الفن، والإلهام الفكري، وابتداع فن أصيل ما يزال محل إعجاب حتى يومنا هذا، يحتفي به العامة والخاصة ويروجان له على حد سواء. حيث لعبت هذه القيم دور في توحيد المجتمع الإيطالي الذي كان يعاني انقساماً كبيرًا.
وفيما يخص محور سياسات الجمال والإبقاء على شرارة النهضة البشرية، بين أ. د. فيديريتشي على ارتباط النهضة بالفن والثقافة في أذهان الكثيرين غالباً، وشدد على أهمية اعتبارها قضية سياسية، ومبدأ تسامح يتيح لنا الإبقاء على البشرية. وبين أنه يمكن للمفاهيم التاريخية للنهضة -بمعناها الدال على الانبعاث أو الصحوة- والإبداع أن تساعد في معالجة القضايا السياسية المشتركة بين الدول العربية.
على الرغم من إمكانية اكتساب الكثير من النهضة الإيطالية، فإن على العالم العربي أن يحرّر نفسه من التأثير الغربي. وشدد فيديريسي أن أحد أهم معاني النهضة يتمثل “إحياءً التعلم”، وبين أن هذه “الثروة موجودة بالفعل في نواحي المنطقة” فالتعليم في الوقت الحالي؛ والالتزام بعدم استثناء أو تخلف أي شخص عنه مع ضمان حقوق جميع الأفراد هو ما سيولد الإبداع الجماعي للشعوب العربية.
أما فيما يخص المأزق العربي، والمشكلة الأوروبية، والنهضة المتوسطية المشتركة المحيطة بها. أكد حصحص أن الأزمات في العالم العربي سياسية في معظمها، قائلاً “بأن الشرق الأوسط قد اتسم بإرث الاستعمار وتأثير القوى الاستعمارية فيه بشكل عميق”، مضيفاً “ومع ذلك؛ تأثر العالم العربي أيضاً بالأنظمة الاستبدادية الداخلية ما خلق مشكلة معقدة ومتزايدة فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي ووجهة نظره في الشرق، إذ تأثر العالم العربي بشدة بالفكر الشعبوي، مع استمرار الموقف الإمبريالي بعض الشيء. ومع ذلك؛ ينبغي الاعتراف بواجب الاتحاد الأوروبي الأخلاقي حيال الشرق الأوسط جراء الإرث التاريخي والأضرار التي أحدثها في العالم العربي، والبحر المتوسط الذي تشترك فيه هذه الأطراف”. وأضاف حصحص “في الماضي؛ لم تنجح العلاقات الأوروبية المتوسطية بشكل جيد، وذلك بسبب القضايا السياسية العالقة بينهما. لكن لا ينبغي أن يُنظر إلى هذا الأمر على أنه فشل كامل فما هو إلا نهج وطريقة، ويجب استكشاف النهضة العربية في القرن التاسع عشر بالاستفادة من الإدراك المتأخر لها، كما من الواجب مراعاة الديناميكيات المتغيرة”. وخلص حصحاص إلى “وجود مستويات عالية من الوصاية في الشرق الأوسط مع الافتقار إلى ثقافة العطاء، وهناك حاجة لإعمال التفكير النقدي في منطقة البحر الأبيض المتوسط، على المستويين السياسي والفكري. من الواضح أيضاً ضرورة توظيف الحوار والمساءلة للإصرار على التفكير المنطقي لاستنباط المعرفة ومعالجة هذه العناصر المفقودة في بناء التقدم الاجتماعي في العالم العربي”.
حث د. السبايلة على النظر إلى النهضة لا باعتبارها مجرد فن وثقافة، ولكن كطريقة تفكير تعبر عن”تطور الفكر”. وأشار إلى أن العالم العربي قد مر بثلاث مراحل أعاقت تطور العقل البشري، وهي: الإمبريالية التي تمثلت بالحكم العثماني؛ والاستعمار بعد ذلك؛ والديكتاتورية، والتي أدت إلى اضطهاد العقل العربي. لحل هذه القضية، يغدو تحرر الفكر والناس أمراً ضرورياً لاكتشاف أنفسهم والمساهمة في الابتكار. فنضال الشعوب العربية اليوم يجب أن يسعى لمنح الناس الفرصة لتحقيق هذا الاكتشاف، وتحرير عقولهم من سجن النظم السلطوية، مع منحهم حرية التفكير بعيداً عن المحظورات الدينية والسياسية المرتبطة بها. وفقاً للسبايلة، ينتج عن خلق هذه الحرية وتحرر الفكر، تلقائياً، زيادة قيمة الإنسان والتضامن الإنساني، كما قال بأنه: “يجب على المرء التفكير في كيفية تحرير السياسة التي تسجن النهضة، وإمكانية انفتاح المجتمع على العالم”، ليختتم السبايلة حديثه قائلاً: “يجب تعزيز التسامح، والشمول، وإسقاط النظام السلطوي، والسماح للعالم العربي بتحرير نفسه من الواقع الحالي”.
ختاماً، خلص المشاركون إلى أن بمقدور النهضة أن تكون واقعاً راسخاً، ويمكن لها أن تؤدي إلى تحول العالم والالتزام بعدم استثناء شخص منها، وضمان الحقوق للجميع. مشددين على الدور الذي يجب أن تلعبه الديمقراطية بوصفها قيمة عالمية حقيقية، وأهمية دور الطبقة الوسطى في دفع وتحفيز الحكومات والمؤسسات لتطوير التعليم الشامل ودفع الفن والثقافة، بالإضافة إلى أهمية بناء الجسور ومحاربة الخطاب المتطرف والإسلاموفوبيا للوصول إلى تفاهم عالمي إنساني مشترك، وضرورة وجود مجتمع المدني فاعل اجتماعي ومؤثر لضمان ذلك.