ولّدت حادثة موت الشاب الأمريكي الأسود جورج فلويد يوم 25 أيار/مايو 2020 على يد شرطي منعه حق التنفس إلى حد الوفاة، موجة تنديد عالمية عارمة ضد حوادث العنصرية المقيتة التي تصاعدت بوتيرة متسارعة في الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الأخيرة.
وإذا كانت هذه الحادثة الفظيعة قد أدت إلى حراك واسع ضد ما يعانيه ذوو البشرة السوداء من غُبن وتمييز وإقصاء، فلا بد من الانتباه إلى أن هذه الحادثة لم تكن معزولة وغير استثنائية، بل تعبر عن اتجاه متنام في الولايات المتحدة الأمريكيةـ وغيرها للنكوص عن مكاسب النضال الحقوقي من أجل المساواة والعدالة والإنصاف.
ومن الجلي بروز نزعات خطيرة تتبنى الخطاب الاستعلائي العنصري وسياسات التمييز والإقصاء في البلدان الديمقراطية الغربية، وذلك باسم خطاب الهوية القومية أو الاعتبارات الأمنية، أو الحقوق السيادية. ومن أبرز هذه النزعات الاتجاهات الشعبوية المناوئة لليبرالية والفاصلة بين محددات الديمقراطية التعددية ومدونة حقوق الإنسان الكونية التي أصبحت في واجهة الحكم في العديد من البلدان، والاتجاهات الاستعلائية البيضاء التي يتزايد نفوذها وتأثيرها في الساحة السياسية، والنزاعات المعادية للتنوع الثقافي والديني باسم الهوية العرقية المغلقة بما تعنيه من نسف مبدأ المواطنة المتساوية، والتعامل مع فئات واسعة من المواطنين كمهاجرين غزاة يهددون وحدة الكيان الاجتماعي وتجانسه.
إن هذه السياقات تشكل الخلفية الحقيقية للممارسات العنصرية المتنامية التي تستند إلى نفس الفكرة التراتبية التمييزية بين الشعوب والثقافات، والتي شكلت الإطار المرجعي للخطاب الاستعماري في القرن التاسع عشر في تبنيه للمفاهيم العرقية والإثنية، وتصوره للهوية القومية المغلقة.
وإذا كان السود في العالم قد شكلوا هدفًا لهذه الممارسة الإقصائية التمييزية عبر ممارسات الأنظمة المؤسسية القمعية، والتي كان من أبرزها نظام الفصل العنصري الذي طبق في جنوب إفريقيا حتى بداية تسعينيات القرن الماضي، فإن القرن الجديد بدأ بمحاولات واضحة متزايدة لتطبيق هذا النظام العنصري في فلسطين.
كما أن من أوضح مؤشرات هذا التوجه صدور القانون الأساسي الإسرائيلي في تموز/يوليو 2018 محددًا هوية إسرائيل على أنها دولة يهودية، بما يعني إلغاء مبدأ المواطنة المتساوية وإقصاء خُمس سكان هذه الدولة من محددات الهوية السياسية لها. بالإضافة إلى تكريس سياسات ضم المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية التي لقيت دعم الإدارة الأمريكية لسياسات الفصل العنصري في المناطق المحتلة، الأمر الذي يعني عمليًا إلغاء مبدأ الدولة الفلسطينية المستقلة وإقامة غيتوهات مغلقة منفصلة عن بعضها البعض في الأراضي التي استولت عليها إسرائيل بعد حرب 1967.
ومع ظهور محاولات عديدة لتحصين الإجراءات العنصرية الإسرائيلية من خلال إصدار تشريعات تمنع توجيه الانتقاد لإسرائيل، وتعتبر الوقوف ضد الصهيونية موقفًا معاديًا للسامية، كما حدث في بعض الدول الأوروبية، فإننا نضم صوتنا إلى مئات الباحثين والكتاب والمفكرين اليهود بما فيهم عدد هام من الإسرائيليين والمختصين في المحرقة في تنديدهم بهذه الإجراءات التي تهدف لتقييد حرية النضال الحقوقي الشرعي ضد الاستعمار والتمييز العنصري، مبينين أن الأيديولوجيا الصهيونية لا تعبر عن الهوية الدينية لليهود، وقد وقفت المؤسسة الحاخامية ضدها تاريخيًا لخروجها عن عقيدة تحريم الرجوع للأرض المقدسة قبل ظهور المسيح المخلص، كما وقفت النزعات التنويرية والحداثية اليهودية والإسرائيلية ضد خطابها القومي الإقصائي.
نطالب اليوم بوقفة شاملة لكل مكونات المجتمع المدني العالمي بضميره الفكري والأخلاقي ورفض عودة العنصرية خطابًا وممارسة، والتضامن مع كل ضحايا الاستعمار والتمييز، من منطلق القيم الإنسانية الكونية وهي المرجعية الجامعة للبشرية في تنوعها وارتباط مصائرها.