في محاولة لإنجاز فهم معرفي لقضايا التحولات في العالم العربي وأسئلة النهضة، خاصة في ظل التحولات العميقة التي شهدها العالم العربي على مدى أكثر من عقد من الزمان في العديد من المستويات والتي تنبئ إلى إنتاج تراكمات مهمة في المستقبل المنظور، أطلقت الشبكة الدولية لدراسة المجتمعات العربية ومنظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية (أرض) سلسلة من ندوات المنتدى الدولي بعنوان “التحولات”. حيث عُقدت الندوة العلمية الرقمية الأولى تحت عنوان “التحولات في العالم العربي ومشروع النهضة”، بمشاركة أربعة مفكرين عرب وهم: ميسر اللجنة الفيلسوف والأكاديمي المصري الدكتور مصطفى النشار، والأكاديمي المصري الدكتور مجدي عبد الحافظ، والأكاديمي الدكتور عصمت سيد حسين نصار من مصر، والكاتب شايع الوقيان من السعودية.
وافتتحت الجلسة المنسقة العامة للشبكة الدولية لدراسة المجتمعات العربية الدكتورة ماريس يونس التي أكدت أن هذه الندوة تشكل الحلقة الأولى من مشروع أكبر يرصد التطور في بلدان العالم العربي، والذي هو تطور غير متجانس ويرتبط بجملة من المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والسكانية وغيرها، فالتغيرات متعددة الأوجه هي المشكلة المحورية لمشروعنا الحواري. وبدأ الدكتور مصطفى النشار عرضه من مرحلة الصدمة الاستعمارية التي تعرض لها العالم العربي والتي كانت بداية تحولات كثيرة جرت في البلدان العربية ولم تنقطع وما زالت مستمرة وإن كانت بشكل مختلف بعد تحولها من الصورة الحادة والعسكرية إلى حروب الجيل الرابع – كما وصفها. وأضاف: نحن دائماً في حوار وتحولات معظمها سببه الغربي وتدخلاته في الشأن العربي كما أننا في حالة دائمة من ردود الأفعال ولسنا فاعلين، متسائلاً متى سنخرج من ذلك الصراع ثلاثي الأبعاد الذي قدمته المشاريع النهضوية الأولى والمتمثل بأتباع الأصالة وأتباع المعاصرة وأتباع التوثيق بينهما. وتابع أن آخر هذه التحولات هي ثورات الربيع العربي وما تخلفه الآن من ضياع لمفهوم الدولة في العربي سواء في سوريا أو العراق أو تونس ومصر، مؤكداً أنه لا يمكننا التقدم إلا من منظور الاستقلال الذاتي الحقيقي ومن منظور استقلال القرار العربي، ومن منظور صورة من صور التضافر والوعي بضرورة الاتحاد أياً كان شكله بين إمكانيات الدول العربية مجتمعة حتى لا تصبح فريسة للطائفية والحروب والانقسامات والتدخلات الخارجية.
من جهته، أكد الدكتور مجدي عبد الحافظ أن التحولات العميقة التي حصلت في عالمنا العربي عبر القرنين الماضيين لامست وعلى مستويات عدة الأجهزة والوسائل التقنية المختلفة، والمؤسسات، والأنظمة، والفكر، والثقافة، والسلوك حتى وصلت إلى اللغة والعادات، وفرضت مصطلحات جديدة أيضاً على مستويات عدة. وتوقف عبد الحافظ عند عنوانين وردا في الورقة الإرشادية لسلسة الندوات، الأول المعوقات التي شابت الحداثة في مجتمعاتنا، والثاني قيم الحداثة المفتقدة في عالمنا العربي. ففيما يخص القيم المفتقدة اعتبر عبد الحافظ أن العقلانية هي القيمة الأولى التي غابت جزئياً في مجتمعاتنا مما أثر على ممارساتنا المختلفة، فانعكس الأمر على طريقة تعاملنا مع الزمن فلم نعد نحترم الوقت في كل المجالات. أما القيمة الثانية فهي غياب الفردية ليس بمفهومها النرجسي وإنما المقصود أن الحداثة تتوجه دائما للفرد، ولا يمكن أن تحقق إنجازها دون مساهمات وإبداعات الفرد الذي ما زال غير متحرراً في مجتمعاتنا. أما القيمة الثالثة فهي غياب المساحة العمومية والتي تؤطر السلوك الخاص والعام، وتميز بين الحياة الخاصة والعامة الأمر الذي أدى إلى غياب التوافق الذي يربط بين سلوك المواطنة والسلوك الطبيعي. والقيمة الرابعة هي الشفافية التي تعكس انتصار العقل وتعتبر آلية فاعلة تتجلى في الانتخابات العامة في الدولة، وتبرز عند اتخاذ القرارات والإحاطة بأسبابها وتجعل من أملاك الحكام والمسؤولين شأناً عاماً. والقيمة الخامسة وهي غياب الديمقراطية التي تجعل المواطن حراً وتحميه من الاستبداد. أما القيمة السادسة فتتمثل في غياب العلمانية الذي أدى لتحويل الظواهر الاجتماعية إلى ظواهر دينية، وسمح بتداخل مناحي الحياة.
وتابع “أما معوقات الحداثة فهي غياب الفاعل الاجتماعي على عكس ما حدث للغرب، و المعوق الثاني هو فرض الحداثة ومحاولة تطبيقها من أعلى، مما جعل الناس يربطون بين الحداثة والأوامر الظالمة التي اعتادوا على تلقيها، وثالث هذه المعوقات هو العمل على الإلغاء قبل الإحلال أي تم إلغاء الهيئات التقليدية في حياة الناس قبل أن يحل بدلاً منها الهيئات الحديثة، مثل إلغاء النقابات والأحزاب قبل إيجاد البديل، والمعوق الرابع هو أن منجزات الحداثة لعبت أدواراً معاكسة لقيم لحداثة ذاتها فتم تحديث الأجهزة والأدوات واستخدامها في مكانها غير الصحيح وانما استخدمت في قمع المظاهرات والتعذيب في السجون، وأخيراً يأتي المعوق الخامس وهو خلافات الداعين للحداثة وتعدد مراكز الحداثة حيث رفعوا أعلاماً مختلفة وتناقضت نتائج دراستهم تبعاً للمرجعيات.” وختم أن على الفلسفة والفلاسفة في عالمنا دور كبير، فلا بد أن يصاحب هؤلاء الناس في التحرر من قيود واستبداد الأنظمة ويتعلم معهم الاحتفاظ بالاستقلالية والتمسك بالمعالجات النقدية ونشر الفكر العقلاني في مجتمعاتهم.
الكاتب شايع الوقيان ركز خلال مداخلته على مناقشة سؤال النهضة العربية الحديثة، مفترضاً أنها نهضة حديثة لأن هناك نهضة قديمة وهي نهضة العرب بالعهد العباسي، أما النهضة الحديثة فقد بدأت في مطلع القرن التاسع عشر بعد الحملات الفرنسية وكان اصطدام النهضة العربية بالآخر الغربي اصطداماً سلبيا، ومنذ تلك الفترة ظهر سؤال النهضة عندما فوجئ العرب بهذا التحديث والتنظيم للغزاة. وأضاف أنه يمكن التعبير عن هذا السؤال بصيغة مشهورة جداً أجمع عليها مفكرو النهضة وهي “لماذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم غيرهم؟”، فكانت التحولات متمحورة حول مواجهة التخلف من وجهة نظر غربية وليست أصيلة من واقع احتياجنا العربي. وتابع أن هذا السؤال انتهى أو لم يعد يطرح بصيغته التقليدية مع نهاية القرن العشرين، فقد ظهر سؤال آخر جديد غير الأنا الغربي وهو الأنا التراثي، مما جعل هذا الأمر بؤرة للصراع الحضاري والفكري، فالأنا دائماً ما تطرح سؤال الآخر، حتى لو كان ينتمي لإطارها الثقافي وهذا أحد أزمات سؤال النهضة، فجميع مشاريع النهضة تأسست انطلاقا من ثنائية الأنا والآخر، والحل بتجاوز الثنائية وعدم اتخاذ الأنا على أنها نقيضاً للآخر. وبين أن المفكرين العرب قدموا جميع ما يمكن أن يقدمه المفكر من الحل الإسلامي العقلاني إلى الحل العلماني، والحل العلمي، والوطني والقومي، ولا يعقل أن نقول بإن جميع هذه الحلول خاطئة ولا يمكن الحكم على أي قضايا نظرية إلا بالتحقق التجريبي. وأكد أن لدينا مشاريع هائلة وحلول كثيرة واقتراحات متنوعة ولا بد أن من ضمنها شيء كان سينهض بنا لو تم تحقيقه، مشيراً إلى الحاجة لإعادة صياغة سؤال النهضة ولماذا كان نظرياً ولم يتغلغل إلى شرائح المجتمع ونسيج الثقافة العربية، ولماذا تعثرت الكثير من المشاريع السياسية التطبيقية للنهضة.
من جهته قال الدكتور عصمت سيد حسين نصار إنه لا يستقيم الحديث عن النهضة أو أي مشروع نهضوي إلا عن طريق مثلث ” نحن والآخر وماذا بعد ” وهذا ما اعتمده رواد النهضة الأوائل، مشيراً إلى أن هناك العديد من الخطابات، ولكن ليس كل خطاب مشروع، بالمقابل فأن كل مشروع خطاب، فالخطاب نظري عموماً لكنه إذا تأصل وعاد إلى الواقع وتمثل التخطيط والمراجعة يصبح مشروعاً. وأضاف أن أصحاب المشروعات لا يعرفون التثوير ولا يعرفون الإطاحية والراديكالية والنقد الكلي للآخر وإنما يحاولون التأليف بين المختلفات أو المتميزات، ولذلك اجتهد حسن العطار في التأليف بين ما نعتقد أنه ثنائيات ونقائض وبين الواقع المعيشي. كما أكد أن المشروع العربي الحديث يجب أن يجتمع على نقطتين أساسيتين وهما الثوابت والمصلحة العامة مع عدم مناهضة الرأي العام القائد ولا معاداة الرأي العام التابع وإلا سوف يفشل المشروع.
هذا ويعتبر فهم التحولات في عالمنا العربي أساساً تستند عليه الأسئلة الجديدة لمشروع النهضة، بحيث تتجاوز الأسئلة التي طرحها رواد النهضة الأوائل ما قبل التحولات التي شهدها العالم العربي، كما أنها تعيد تعريف المصطلحات والمفاهيم المرتبطة بالنهضة ضمن سياق هذه التحولات الجديدة.