شكّلَتْ مسألةُ قراءةِ النخبِ العربيةِ معرفيًّا وأدوارِها المختلفةِ -في الواقعِ لفترةٍ معتبَرةٍ- جدلًا بينَ المتخصِّصينَ في الاجتماعِ والسياسةِ والفلسفةِ، ورجّحَتْ كفّةُ التحليلِ أطروحةَ فشلِ تلكَ النخبِ في إحداثِ تأثيرٍ في التحوُّلِ نحوَ بناءِ أنموذجٍ نهضويٍّ تنمويٍّ تستفيدُ منْهُ المجتمعاتُ العربيةُ بشكلٍ يحقِّقُ داخلَها إقلاعًا اقتصاديًّا وتطوُّرًا ثقافيًّا يُلحقُ تلكَ المجتمعاتِ بمسارِ التطوُّرِ الذي يحدثُ في العالم.
قُدِّمَتْ تعاريفُ متعدِّدةٌ للنخبِ، وَفقَ سياقاتِ الإنتاجِ المعرفيِّ للغربِ، وصُنِّفَتْ تلكَ النخبُ تبعًا لوظيفتِها داخلَ المجتمعِ، غيرَ أنَّ عمليةَ إسقاطِ تلكَ المفاهيمِ على الواقعِ العربيِّ -المتحوِّلِ باستمرارٍ- جعلَتْ منْ حصرِها في إطارٍ ستاتيكيٍّ مسألةً تُثيرُ التفكيرَ وتدعو إلى التدقيقِ المنهجيِّ المتكرِّر.
لقدْ مارسَتِ النخبُ العربيةُ في وقتٍ سابقٍ منَ الزمنِ تأثيرًا فاعلًا على مجتمعاتِها، حتّى وإنْ كانَ بعضُ الباحثينَ يحاججونَ في طبيعةِ ذلكَ التأثيرِ، ففي مرحلةِ بناءِ الدولةِ الوطنيةِ وُضِعَتِ النخبُ بمختلفِ المستوياتِ ضمنَ دائرةِ الطلبِ الاجتماعيِّ لتبنّي الاستراتيجيةِ التي اعتُمدَتْ حينَها في تسويقِ الخطابِ الرسميِّ، وأصبحَتْ – إذْ ذاكَ- النخبُ تمارسُ نوعًا منَ البروباغاندا نحوَ الجماهيرِ في سبيلِ إنجاحِ رؤيةِ أصحابِ القرار.
غيرَ أنَّ المكانةَ الرمزيةَ للنخبِ حينَها كانَتْ متميِّزةً لدى المجتمعاتِ، إذْ مثّلَتْ تجربةُ الانتقالِ منْ مرحلةِ الاستعمارِ إلى الاستقلالِ مرحلةً وضعَتْ على النخبِ مسؤولياتٍ جمّةً في بناءِ منظومةِ التعليمِ والإسهامِ في الثورةِ الثقافيةِ التي منحَتِ الإنسانَ العربيَّ أولويةً لبنائِهِ وتثقيفِهِ وإخراجِهِ منَ الأميةِ إلى المعرفة.
إنَّ التحوُّلاتِ التي شهدَتْها المجتمعاتُ العربيةُ في العقودِ الماضيةِ جعلَتْ منْ مكانةِ النخبِ الكلاسيكيةِ تتآكلُ رويدًا رويدًا وجرى سحبُ البساطِ منْ تحتِ أرجلِها، وهذا راجعٌ في حقيقةِ الأمرِ إلى ضعفٍ ذاتيٍّ داخلَها ناجمٍ عنْ سياقاتِ تشكُّلِها منْ جهةٍ، وعنِ الانتظاراتِ المجتمعيةِ منْ نخبِها والتي ارتبطَتْ بمشاريعَ ظرفيةٍ وآنيةٍ -منْ جهةٍ أخرى-.
لقدْ أدَّتِ الوسائطُ الجديدةُ في الإعلامِ دورًا بارزًا في ظهورِ نخبٍ افتراضيةٍ لا تمتُّ إلى الواقعِ بصلةٍ منْ جهةٍ، وإلى تراجعِ مكانةِ النخبةِ العربيةِ بينَ مجتمعاتِها، وتحوّلَتِ الأميةُ -في تلكَ المجتمعاتِ- منْ أميةِ عدمِ القراءةِ إلى أميةِ قراءةِ الأحداثِ السريعةِ السطحيةِ دونَ إعمالٍ للعقلِ بينَ جيلٍ منَ الشبابِ لا يركنُ إلى ثقافةِ القراءةِ العميقةِ و المتأنّيةِ في مجالاتِ المعرفةِ المختلفةِ، وهوَ ما حرمَ النخبَ أفضلَ أدواتِها في تسويقِ نفسِها بينَ الجماهيرِ العربيةِ والمتمثّلةِ في الإنتاجِ المعرفيِّ وتداولِهِ بينَ فئاتِ المجتمعِ المختلفة.
بنيةُ المجتمعاتِ العربيةِ أسهمَتْ كثيرًا في صناعةِ نخبةٍ جديدةٍ تتميّزُ بالبراغماتيةِ والنفعيةِ الآنيةِ، نخبةٍ مائعةٍ غيرِ مؤثِّرةٍ ولا موجِّهةٍ للمجتمعاتٍ، بلْ منكفئةٌ على نفسِها، وأسهمَ الإعلامُ والمنظوماتُ التربويةُ والاكتساحُ القويُّ لوسائطِ الإعلامِ الجديدِ في “موتِ النخبةِ الكلاسيكيةِ” وظهورِ نخبةِ “تحتَ الطلب”. كما أسهمَ في بروزِ نخبٍ دينيةٍ وسياسيةٍ وإعلاميةٍ مصلحيةٍ تشتغلُ تحتَ الطلبِ الاجتماعيِّ ولا تكترثُ كثيرًا لمسألةِ بناءِ الإنسانِ العربيِّ الواعي والناقد.
إنَّ طرحَ مساءلةِ دورِ النخبةِ العربيةِ راهنًا يُعتبرُ منَ الأهميةِ بمكانٍ، و السؤالُ الذي يفرضُ نفسَهُ ههنا:
لماذا يُعادُ طرحُ مسألةِ النخبِ في سياقِ التحوُّلاتِ في العالمِ العربي؟
لقدْ ظهرَتْ نخبٌ جديدةٌ ذاتُ تأثيرٍ قويٍّ ارتبطَتْ بالرأسمالِ الاقتصاديِّ بدلًا منَ الرأسمالِ الرمزيِّ الذي كانَتْ تمتلكُهُ النخبُ المتعلّمةُ والمثقّفةُ، وأصبحَ المجتمعُ ينظرُ إلى النخبِ الصاعدةِ نظرةَ الثقةِ أكثرَ فأكثرَ، وتراجعَ -إذْ ذاكَ- دورُ النخبِ المنتجةِ للمعرفةِ والمعمّمةِ لها في أوساطِ المجتمع.
وأدّى الإعلامُ المرئيُّ دورًا حيويًّا في تعميمِ ثقافةِ التفاهةِ بينَ أوساطِ المجتمعِ، كما أسهمَ الإعلامُ نفسُهُ في إنتاجِ كاريزماتٍ جديدةٍ في الرياضةِ وغيرِها منَ المجالاتِ التي أصبحَتْ تجلبُ الأنظارَ والمشاهداتِ أكثرَ منْ أيِّ قولٍ لمتخصّصٍ في المعرفة.
ضمنَ هذا كلِّهِ فإن ندوتَنا تحاولُ مناقشةَ الأسئلةِ الآتية:
· ما النخبةُ العربيةُ فعليًّا؟
· هلْ تغيّرَتْ أشكالُ بنيةِ النخبِ العربيةِ ووظائفِها وَفقًا للتحوُّلِ في بنيةِ المجتمعاتِ العربية؟
· هلْ ظهرَتْ نخبٌ جديدةٌ تزامنًا معَ الاستهلاكِ الموسّعِ للإعلامِ الجديدِ في أوساطِ الشبابِ العربي؟
· هلْ أصبحَتِ النخبُ الاقتصاديةُ والدينيةُ أكثرَ تأثيرًا في العالمِ العربيِّ منَ النخبِ الفكريةِ والمنتجةِ للمعرفة؟
· هلِ المجتمعُ العربيُّ أصبحَ يميلُ إلى اعتبارِ النخبِ المفكّرةِ نخبًا كلاسيكيةً لا يُمكنُ الاعتمادُ عليْها؟
· هلْ أسهمَتِ النخبةُ في إنتاجِ مكانةٍ متردّيةٍ لها داخلَ مجتمعاتِها؟
· كيفَ يُمكنُ استرجاعُ مكانةِ النخبِ العربيةِ المفكّرةِ في العالمِ العربي؟
· وما الأدوارُ المنتظَرةُ منْها مستقبلًا لتفعيلِ مكانتِها داخلَ مجتمعاتِها للإسهامِ في نهضةِ المجتمعات؟
· هلْ أسهمَتِ التكنولوجياتُ الإعلاميةُ الجديدةُ ووسائطُها في إعلانِ “موتِ” النخبِ العربيةِ الكلاسيكية؟
هذهِ الأسئلةُ وغيرُها ستكونُ محورَ نقاشٍ علميٍّ بينَ نخبةٍ علميةٍ عربيةٍ متخصّصةٍ ضمنَ فعالياتِ الندوةِ العلميةِ الثالثةِ “النخبُ العَربيةُ في أزمنة التَّحول” ويتحدث فيها كل من:
1- الإعلامي عباس زلزلي، لبنان (ميسر الندوة).
2- أ.د عدنان الأمين، أستاذ العلوم التربوية في الجامعة اللبنانية، لبنان.
3- أ.د منير سعيداني أستاذ علم الاجتماع في جامعة تونس المنار، تونس.
4- أ.د سمير عبد الرحمن الشميري، أستاذ علم الاجتماع في جامعة عدن، اليمن.
5- د. أحمد مفلح، باحث في علم الاجتماع والمعرفة، فلسطين.
وعليه؛ يسر منظمة النهضة (أرض) دعوتكم لحضور الندوة، وذلك يوم السبت 13 تشرين الثاني/نوفمبر في تمام الساعة 6:30 مساءً بتوقيت عمّان، الأردن، عبر خاصية البث المباشر على صفحة المنظمة على الفيسبوك.
مشاركتكم تثري الحوار وتغنيه