الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

آفاق بناء نظام عالمي لأمن البشرية، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

تحقيق السلم والأمن الدوليين هو أحد أهم وأنبل الأهداف التي سعى العالم لتحقيقها على مر العصور، لكن الجهود التي بذلت على هذا الصعيد واجهت وما تزال صعوبات جمة. فعقب نشأة الدولة القومية في منتصف القرن السابع عشر، ساد تصور مفاده أن العلاقات الدولية ينبغي أن تبنى على قاعدتي السيادة والمساواة بين الدول. وتعني قاعدة السيادة أن الدولة شخصية مستقلة لا تخضع في تصرفاتها لأي سلطة أعلى منها، ومن ثم يحق لها أن تدافع عن مصالحها بكل الوسائل التي تراها ضرورية، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة إذا لزم الأمر. أما قاعدة المساواة فتعني أن كل الدول تتساوى أمام القانون، ومن ثم ينبغي أن يكون لها نفس الحقوق وعليها نفس الواجبات. واستنادًا إلى هذه الرؤية، ساد اعتقاد مفاده أن السلام والأمن الدوليين يمكن أن يتحققا استنادًا إلى مبدأ “توازن القوى”، ما يعني أن باستطاعة كل دولة تحقيق أمنها اعتمادًا على قواها الذاتية و/ أو على تحالفاتها الخارجية. وقد ترتب على هذه الرؤية بروز ظاهرتين على جانب كبير من الخطورة، الأولى: اندلاع التنافس بين الدول القوية، خاصة الأوروبية منها، على تكوين امبراطوريات استعمارية، والثانية: سباق متواصل للتسلح جعل من إمكانية الوصول إلى نقطة التوازن المطلوبة لتحقيق السلام والأمن الدوليين هدفًا بعيد المنال، وأدى في نهاية المطاف إلى اندلاع حربين عالميتين عانت منهما البشرية أشد المعاناة.

 

أمام هول الدمار الناجم عن الحرب العالمية الأولى، بدأ قادة العالم ييقتنعون بمبدأ “توازن القوى” لتحقيق السلم والأمن الدوليين تلقائيًا، ومن ثم راحوا يفكرون في إدارة العلاقات الدولية من خلال إطار مؤسسي يستهدف تحقيق “الأمن الجماعي”، وهو ما يفسر نشأة “عصبة الأمم” في ذلك الوقت، وعندما فشلت في الحيلولة دون اندلاع حرب عالمية ثانية حلت محلها منظمة “الأمم المتحدة”. غير أن الممارسة الفعلية أثبتت حجم الصعوبات التي تكتنف تطبيق مبدأ الأمن الجماعي. صحيح أن تجربة “عصبة الأمم” شكلت نقلة نوعية في مجال “مأسسة” العلاقات الدولية، غير أنها كانت تجربة قصيرة انتهت بالفشل في تحقيق السلم والأمن الدوليين، وصحيح أيضا أن تجربة “الأمم المتحدة” ما تزال قائمة ومستمرة حتى الآن، لكن استمراريتها لا تقوم دليلًا على نجاحها في الحيلولة دون اندلاع حرب عالمية ثالثة، لأن الواقع يشير إلى أن “توازن الرعب النووي”، وليس فاعلية الأمم المتحدة هو ما أوصلنا إلى هذه النتيجة. لذا يمكن القول إن مبدأ “الأمن الجماعي” أخفق بدوره في تحقيق السلم والأمن الدوليين مثلما أخفق مبدأ “توازن القوى” من قبل. ويعود السبب في هذا الإخفاق إلى عدم توافر الشروط الموضوعية اللازمة لوضع المنظومة اللازمة لتحقيق الأمن الجماعي موضع التطبيق، سواء في تجربة العصبة أو في تجربة الأمم المتحدة. فلكي يتحقق مثل هذا النجاح، ينبغي توافر شروط ثلاثة لم تتوافر مجتمعة في أي من التجربتين:

الشرط الأول: وضوح المبادئ والقواعد العامة التي يقوم عليها نظام الأمن الجماعي، وأن تكون مقبولة ومتفقًا عليها من الجميع، وهو شرط لم يتوافر لا في تجربة العصبة ولا في تجربة الأمم المتحدة. فلم يشارك في المؤتمر التأسيسي للعصبة سوى عدد محدود من الدول، لأن معظم الأقطار غير الأوروبية لم تدع إلى مؤتمر الصلح لأنها كانت في ذلك الوقت تحت السيطرة المباشرة للقوى الاستعمارية الكبرى، وبالتالي لم تشارك في صياغة أو في مناقشة عهد العصبة، بل ولم تصبح أعضاء في العصبة في أي وقت. ولم يختلف هذا الوضع كثيرًا بالنسبة لميثاق الأمم المتحدة، والذي صاغت الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، خاصة الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة، قواعده الأساسية. لذا يلاحظ أن عهد العصبة لم يجرؤ حتى على تحريم مبدأ استخدام القوة في العلاقات الدولية، أما ميثاق الأمم المتحدة فقد تضمن العديد من المبادئ التي اكتنفها غموض أدى إلى خضوعها لتفسيرات شتى ومتباينة، مثل حق “الدفاع الشرعي عن النفس” ومبدأ “عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأعضاء”… إلخ. صحيح أن ميثاق الأمم المتحدة حرّم استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية، غير أن خلو الميثاق من تعريف محدد لمعنى “القوة” أدى إلى اعتقاد البعض أن المقصود هنا هو “القوة المسلحة” وحدها، ما فتح الطريق أمام استخدام العقوبات الاقتصادية الفردية كوسيلة لإلحاق الضرر بالآخرين دون ضابط أو رادع، بل إن بعض الدول الأعضاء لم تتردد في استخدام القوة المسلحة في أعمال عدوانية تحت غطاء “حق الدفاع الشرعي عن النفس”.

الشرط الثاني: وجود أجهزة وآليات قادرة لا على وضع هذه المبادئ والقواعد العامة موضع التطبيق فحسب، وإنما أيضًا على فرض احترامها على الجميع دون تمييز، وهو شرط لم يتحقق أيضًا لا في تجربة العصبة ولا في تجربة الأمم المتحدة. فعندما كانت الدول الأعضاء في العصبة، خاصة القوى الكبرى، تشعر أن الخناق بدأ يضيق عليها، كانت تلجأ للانسحاب منها كي تتمكن من التهرب من تنفيذ الالتزامات الواقعة على عاتقها. صحيح أن الأمم المتحدة عالجت موضوع الانسحاب بطريقة سمحت باستقرار ونمو العضوية فيها باضطراد، غير أن ميثاقها احتوى في الوقت نفسه على العديد من أشكال التمييز بين الدول، خاصة حين قصر العضوية الدائمة في مجلس الأمن على خمس دول تم تحديدها بالاسم، هي الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي (روسيا الاتحادية حاليًا)، والمملكة المتحدة، وفرنسا والصين، ومنح كل منها حق استخدام “الفيتو” دون ضوابط، ما سمح لها بإعفاء نفسها، بل وإعفاء حلفائها أيضًا، من الالتزام الصارم بالقواعد والمبادئ المنصوص عليها في الميثاق، وأدى في نهاية المطاف ليس إلى شل فاعلية منظومة الأمن الجماعي برمتها فحسب، وإنما أيضًا إلى فتح الطريق أمام قيام أحلاف عسكرية، كحلف الناتو وحلف وارسو، شكلت في واقع الأمر نظامًا بديلًا ومناقضًا لنظام الأمن الجماعي نصًا وروحًا.

الشرط الثالث: تعاون الدول الأعضاء مع المنظمة الدولية المعنية بتطبيق نظام الأمن الجماعي بحسن نية، ومدها بالموارد والإمكانات التي تساعدها على القيام بوظائفها الحيوية، خاصة ما يتعلق منها بحفظ السلم والأمن الدوليين، وهو شرط لم يتحقق أيضًا لا في العصبة ولا في الأمم المتحدة. فقد خلا عهد العصبة من أي نص يلزم الدول الأعضاء بوضع جانب من قواتها العسكرية تحت تصرف مجلس العصبة يمكن استخدامه عند الضرورة، أما ميثاق الأمم المتحدة فقد احتوى على العديد من النصوص التي وضعت أساسًا صلبًا لتشكيل جيش دولي قابل للاستخدام تحت سلطة كل من مجلس الأمن ولجنة أركان الحرب، كنص المادة 43 والمادة 45، لكن هذه المواد لم تدخل مطلقًا حيز التنفيذ، سواء بسبب الحرب الباردة التي اندلعت بين المعسكرين الشرقي والغربي، أو بسبب التهميش الذي عانت منه الأمم المتحدة إبان فترة الهيمنة الأمريكية المنفردة على النظام الدولي.

 

غير أنه لا ينبغي أن نستنتج مما تقدم أن تجربتي العصبة والأمم المتحدة كانتا بلا فائدة تذكر للبشرية، فالواقع أنهما أسهمتا كثيرًا في تطوير شكل وطريقة إدارة العلاقات الدولية. فلأول مرة في تاريخ البشرية يصبح للنظام الدولي إطارٌ مؤسسي، تمثله الأمم المتحدة حاليًا، يضم جميع الدول الموجودة على سطح الكرة الأرضية تقريبًا. صحيح أن معظم هذه الدول لم يشارك في صياغة ميثاق الأمم المتحدة التي لم تصبح منظمة عالمية حقًا إلا بعد تسعينيات القرن الماضي. فعدد الدول التي دعيت لحضور مؤتمر سان فرانسيسكو التأسيسي لم يتجاوز 51 دولة، بينما وصل عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة حاليًا إلى 193 دولة، هي كل دول العالم تقريبًا. صحيح أن ميثاق الأمم المتحدة، والذي بقي كما هو تعديل يذكر منذ تأسيس هذه المنظمة الدولية، ما زال يحتوي على ثغرات كثيرة تجعله عاجزًا عن التأقلم مع التطورات العديدة التي طرأت على النظام الدولي، غير أن معالجة هذه الثغرات باتت أمرًا ممكنًا إذا ما توافرت ظروف مواتية تسمح بعقد مؤتمر عالمي لمراجعة هذا الميثاق.

 

أدرك أن الدول الخمس دائمات العضوية في مجلس الأمن، المستفيد الأكبر من بقاء الميثاق على ما هو عليه، ستقاوم أي محاولة لمراجعة الميثاق أو صياغة ميثاق جديد، غير أن اهتزاز النظام الدولي أحادي القطبية والتطلع نحو بناء نظام دولي جديد متعدد القطبية سيجبر الجميع على التحرك إن آجلًا أو عاجلًا في هذا الاتجاه، وذلك لسبب بسيط وهو أن العالم لا يحتمل اندلاع حرب عالمية ثالثة كي يشرع في بناء إطار مؤسسي جديد لنظام دولي يعكس بشكل أفضل موازين القوى الراهنة في العالم، ويعالج مشكلات البيئة، والفقر، والتنمية المتوازنة والمستدامة، والجريمة المنظمة باعتبارها مصادر تهديد لأمن البشرية. لذا أظن أنه بات على جميع الدول التي لها مصلحة في بناء نظام دولي جديد متعدد القطبية أن توحد صفوفها وأن تعكف منذ الآن على صياغة ميثاق بديل لأمم متحدة جديدة تقوم على تحقيق الأمن الجماعي للبشرية، وليس فقط الأمن الجماعي للدول الأعضاء، وهي المهمة التي سيتعين على أصحاب الهمم أن يتصدوا لها إن آجلًا أو عاجلًا، إن أرادت البشرية تجنب اندلاع حرب عالمية ثالثة. أدرك أن الطريق إلى تحقيق هذا الهدف ما زال طويلًا وشاقًا ودونه صعاب جمة، لكنه الطريق الوحيد المفضي إلى إنقاذ الحضارة الإنسانية الراهنة.