الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

استئناف مشروع النهوض العربي: إشكالات التأسيس

مشاركة

السيد ولد أباه

عضو مجلس الأمناء

في أفق استئناف مشروع النهوض العربي المتعطل، يتعين السؤال في البداية: ماذا نعني بالنهوض أو النهضة؟

إن هذا السؤال محوري، باعتبار ارتباط تلك المقولة بمفاهيم مصاحبة، نادرًا ما يتم التفريق بينها وهي: الإصلاح والتنوير والحداثة. بالرجوع لأدبيات الفكر المعاصر، يظهر أن هذه العبارات تستخدم بالمعنى ذاته، وأن مصطلح النهضة يشمل عادة هذه المقولات التي تنتمي لسياقات دلالية وتاريخية متمايزة.

سنؤجل الحديث في الفصل المنهجي والمصطلحي بين العبارات المذكورة إلى وقت لاحق، مكتفين في هذا الحيز بالتعرض للسؤال الجوهري المتعلق بخصوصية التجربة الأوروبية في مسار النهوض التاريخي الكوني. الإشكال المطروح هنا هو: لماذا ظهرت ديناميكية النهضة والتحديث في المجتمعات الأوروبية منذ القرن الخامس عشر الميلادي، بما مكّن هذه المجتمعات من السيطرة على العالم والتحكم فيه، في حين فشلت الحضارات والثقافات الأخرى غير الغربية في هذا المسار؟

ليس السؤال بالجديد، كما أن مقاربات الإجابة عليه متعددة ومتضاربة. بعض هذه الأطروحات ركز على العامل الاقتصادي التجاري في تشكل حركية الرأسمالية الغربية في مقابل قيم الزهد الديني الإسلامية التي ينظر إليها على أنها تتعارض مع عقلانية الربح ومقاييس الفردية المنتجة (ماكس فيبر)، وبعضها تعرض لإمكانات الإصلاح الديني التي تحققت في التقليد المسيحي وأخفقت في العصر الإسلامي الوسيط لأسباب قيل إنها تتعلق بانغلاق النص في مقوماته التأويلية (برنارد لويس)، في حين اكتفى البعض الآخر بالوقوف على العوامل التاريخية الظرفية التي لها علاقة باكتشاف الطرق التجارية الجديدة وتحول نمط البناء السياسي للدولة (آلين تورين).

إن هذه التفسيرات المختلفة تلتقي في نقطتين أساسيتين هما: التعارض البنيوي بين التقليد العربي الإسلامي والسياق الاجتماعي والعقدي الأوروبي، والانقطاع التاريخي والجغرافي بين المجالين، بيد أن المسلمتين لا تصمدان أمام النقد والتمحيص.

فبخصوص المسلمة الأولى، يتعين التنبيه إلى أن الإطار الدلالي والثقافي للمجالين الأوروبي والعربي الإسلامي واحد ومتداخل الحلقات والمكونات، بما يبرز في المقومات المشتركة بين التقليدين من عقيدة الخلق التي هي المرجعية العميقة لقيم الذاتية والإنسانية، ومركزية الرسالة بصفتها الخلفية البعيدة للمنظور التأويلي للنص، والتصور الغائي الممتد للزمن الذي هو مرجعية النزعة التاريخانية التطورية الحديثة. إلا أن السؤال يظل قائمًا: لماذا انجرت عن هذه الشبكة الدلالية القيمية المشتركة نتائج متباينة تاريخيًّا ومجتمعيًّا؟

وبخصوص المسلمة الثانية، أثبتت الدراسات الموضوعية في تاريخ الأفكار التداخل الكثيف في التصورات والمفاهيم والنظريات بين التراث العربي الإسلامي والأوروبي الغربي، ضمن مسار التثاقف الديني والفلسفي والعلمي العميق بين أركان العالم المتوسطي في جناحيه الجنوبي والشمالي. وهكذا ندرك حسب دراسات الآن دي لابيرا ومروان راشد وغيرهم، حدود وهنات أطروحة القطيعة بين العصر الوسيط والزمن الحاضر، باعتبار أن مرتكزات الحداثة الأوروبية لا يمكن فصلها عن التحولات العلمية والإبستمولوجية التي عرفها التقليد الإسلامي من رياضيات وطبيعيات وفلكيات بما كان له أكبر الأثر في الانفصال عن الكوسمولوجيا الأرسطية القديمة ببنائها الفلسفي والمجتمعي، وتهيئة الأرضية للمقاربة التجريبية الطبيعة وللنزعة النقدية الإنسانية.

إن التفسير الرائج لديناميكية النهوض الأوروبي الحديث ينظر إليه كخيط ممتد ينطلق من النهضة الثقافية والأدبية إلى الإصلاح الديني ثم التنوير انتهاء بالثورات الصناعية والتقنية الحديثة بانعكاساتها الهائلة سياسيًّا ومجتمعيًّا.

إن هذا التفسير نادرًا ما يتعرض للارتباط السببي بين هذه المحطات، بما خلّف إشكالات معقدة في الدراسات الاجتماعية والتاريخية بخصوص تجارب التحديث غير الأوروبية (اليابانية، والهندية، والصينية، وغيرها) التي لم تسلك هذا المسار الخطي بمراحله المتتابعة المتلاحقة.

بالرجوع إلى التجربة العربية الإسلامية، نلاحظ تمايز الإشكاليات المتعلقة بالنهضة والتنوير والحداثة في الفكر المعاصر الذي تمحور في صياغاته النظرية الأولى حول شعاري الإصلاح والتقدم (أو التمدن). فإذا كان مفهوم النهضة انحصر إجمالًا في المباحث اللغوية والمعجمية الرامية إلى تنشيط وتطوير المنظومة الثقافية العربية، فإن المسألة التنويرية ظلت غائبة عن نظر سراة الإصلاحية العربية الذين اتجهوا إلى خطاب التجديد الديني والإصلاح السياسي والاجتماعي.

وإذا كان الفكر العربي المعاصر منذ نهاية الستينيات (عبد الله العروي، ياسين الحافظ، وصادق جلال العظم، وغيرهم) بدأ التركيز على العوائق النظرية والثقافية لمشروع النهوض العربي، فإن سؤال التنوير ظل ثانويًّا في هذا النقد الجذري الذي انشغل على الخصوص إما بالمسألة الدينية العقدية أو بالبنيات والأنساق الاجتماعية.

بطبيعة الأمر، لم يكن إشكال التنوير حاسمًا ومحددًا في الخطاب العربي المعاصر الذي هيمنت عليه أدبيات “الثورة الاجتماعية”، ما دام التنوير ينظر إليه بصفته محطة متجاوزة في مسار التحول التاريخي للمجتمعات الحديثة.

صحيح أن الكتابات السياسية لمفكري التنوير الأوروبي ترجمت مبكرًا إلى العربية كما هو شأن أعمال روسو ومونتسكيو، إلا أن المرتكزات الفلسفية العميقة لحركية التنوير الأوروبي ظلت هامشية في الفكر العربي المعاصر.

لقد غاب كليًّا السؤال الجوهري حول إمكانية بناء مشروع حداثي نهضوي دون أفق تنويري، ما دام التنوير هو الرصيد النظري والقيمي العميق للحداثة في محدداتها العقلانية والإنسانية ونزوعها الكوني.

كان الفيلسوف الألماني-الأمريكي “ليو شتراوس” قد ميز في أعماله حول الفكر الديني والسياسي الكلاسيكي بين ما أسماه ” التنوير الإسلامي-اليهودي الوسيط” و”التنوير الراديكالي الحديث”، معتبرًا أن ما يجمعهما هو نفس الروح العقلانية النقدية التي تختلف ما بين توجه تأويلي حر يمارس من داخل النص (كما لدى ابن رشد وابن ميمون)، وتوجه تاريخاني لائكي ينزع إلى استبدال مرجعية الدين بمرجعية الذاتية الإنسانية المكتفية بنفسها.

وهكذا يصبح السؤال المطروح حاليًّا: هل يكون استيعاب أفق التنوير في المشروع النهضوي من خلال الرجوع إلى هذه المحطة الحاسمة في تشكل الوعي العربي الحديث ولو على حساب القطيعة مع الاستحقاقات الراهنة للنقدية الفلسفية والمجتمعية لتركة الأنوار الأوروبية، أو يكون ذلك من خلال استئناف التنوير العقلاني والتأويلي الوسيط الذي يبدو أنه الخيار الذي يسعى لاستكشافه عدد متزايد من مفكري النهوض العربي؟