لمبدأ التسامح شهادة ميلاد. قد نجد فلسفات وتعاليم أديان تحضّ عليه، لكن ترسيمه بالقانون، وجعله مفهومًا مبدئيًّا قائم الذات له شهادة ميلاد في الزمان والمكان.
فقد نشأ هذا المفهوم الفلسفي المبدئي لتجاوز الحروب الدينية التي عصفت بأوروبا ما يقرب من قرن من الزمان، بين القرنين السادس عشر والسابع عشر ليتم الإقرار بالحق في الاختلاف في الرأي والعقيدة، وليفضي فيما بعد إلى فصل الدين عن الدولة، مع ضمانها حرية المعتقدات الدينية وتعايشها. كانت الغاية هي إنهاء الصراع على الدين وباسمه، وإحالة المعتقد الديني إلى المجال الخاص فلا يخترق المجال العام، مجال الدولة وقوانينها ومؤسساتها، واعتبار الأغلبية والأقلية سياستين متغيرتين ومتداولتين عبر صناديق الاقتراع، وليستا ثابتتين كالأغلبية والأقلية بمفهومهما الديني والطائفي.
روّاد التأسيس الفلسفي لمبدأ التسامح كانوا ثلاثة: جون لوك (ت 1704)، وبيير بايل (ت 1706) وفولتير (ت 1778).
الفكرة الأساسية عند لوك في رسالة التسامح هي الفصل بين المدني والديني. فليس للكنيسة أن تفرض العقوبات، أو إلقاء الحُرْم على أي مسيحي، وله حرية الدخول أو الخروج من مجتمع الكنيسة. أما الدولة فمهمتها مدنية صرفة، فليس لها الانشغال بمدى تديّن الناس ولا إعدادهم للنجاة في الآخرة، بل مهمتها تدبير مصالح الناس وضمان حقوقهم الأساسية في الحياة والحرية والملْكية. والإيمان الديني ليس شأن الكنيسة أو الدولة، بل يخص ضمير الفرد.
أما بايل، فيعتبر أن إكراه الناس على تغيير عقائدهم لا يؤدي سوى إلى النفاق، لأن ضمائر الناس لا سلطان لأحد عليها لأن الدين مسألة ضمير ولا سبيل للتحكم في ضمائر الناس.
ويأخذ بايل على معاصريه المسيحيين أنهم يكيلون بمكيالين (وهذا تعبيره)، فهم من جهة يتأسَّوْن على القمع الذي تعرض له أوائل المسيحيين، وهم من جهة أخرى يقمعون بعضهم البعض، ليس فقط قمع الكاثوليك للبروتستانت بل قمع البروستانت لمخالفيهم. ألم يقل كالفان، أهم داعية بروتستاني بعد لوثر إن الله يأمر بتدمير مدن المخالفين وإبادة سكانها؟
التسامح عند بايل ينبغي أن يكون مع المسلمين أيضًا، فلا يمنعون من بناء مساجدهم (خلافًا لما يدعو إليه اليمين الأوروبي المتشدّد اليوم من منع إنشاء المساجد في المدن الأوروبية)، كما يعارض التبشير لتمسيح المسلمين. كل ما يطلبه من المسلمين في أوروبا أن لا يكون ولاؤهم لسلطة أجنبية، بل لملوكهم الأوروبيين وحسب. بل يعتبر المسلمين أكثر تسامحًا لأنهم في رأيه لا يقمعون المسيحيين، ولأنهم يُجلّون المسيح إذ يعتبرونه رسولًا.
خصّص فولتير للموضوع كتابه رسالة في التسامح ومقالًا في قاموسه الفلسفي، ولو أن الكتاب والمقال لا يقدمان جديدًا في تنظيرهما للتسامح قياسًا إلى سلفيْه لوك وبايل. إلا أن أهمية فولتير راجعة إلى تعبئته الرأي العام في قضية كالاس. فقد اتُّهم جان كالاس ظلمًا بقتل ابنه بدعوى أن هذا الأخير كان عازمًا على ترك مذهب عائلته البروتستانية والعودة إلى الكاثوليكية، وحُكم على الأب بالإعدام شنقًا وإحراق جثته. وقد تجنّد فولتير للدفاع في قضية كالاس إلى أن صدر حكم ببراءة الأب. وقد احتشد الناس أمام المحكمة واستقبلوا القضاة بعد صدور الحكم بالهتاف والتصفيق، لاسيما وأن الحكم صدر في الذكرى الأولى لإعدام جان كالاس. واحتشاد الناس تضامنًا مع العائلة المنكوبة له دلالة، وهو أن العقليات بدأت تتغير لصالح مبدأ التسامح والحق في الاختلاف العَقَدي. ذلك أن نجاح الأفكار ليس في تنظيرها وحسب، بل أن تتهيأ العقليات لقبولها، وهذا ما حصل في عصر فولتير بعد حقبة لوك وبايل.
إن اختلاف الأديان والمذاهب عادة ما يفضي إلى صراع لا ينتهي إلا بتغلّب العقيدة الأقوى. إلا أن الحروب الدينية في أوربا أسفرت عن شيء جديد، وهو إقرار مبدأ التسامح والحق في الاختلاف في العقيدة والرأي، وحياد الدولة الديني مع ضمانها حرية الاعتقاد وممارستها. فليس شأنُ الدولة الرقابة على الإيمان الديني لمواطنيها، وليس هدف الدين إقامة دولة دينية.
إلا أن الحق في اختلاف العقيدة والتعددية الدينية هو اليوم أمام اختبار في أوروبا نفسها بسبب موقف اليمين وخاصة اليمين الشعبوي من مواطنيه المسلمين. لقد تراجع هذا اليمين عن قيم ومبادئ كالحق في الاختلاف الديني والتعددية الدينية الثقافية كلما تعلق الأمر بمسلمي أوروبا، بل جعل مواطنتهم مشروطة بتخلّيهم عن خصوصيتهم الثقافية والدينية واعتبارهم طارئين على مجتمعات قد استقّرت مؤسساتها وقيمها الثقافية قبل مجيئهم. فإسقاط خصوصيتهم شرط لمواطنتهم. وحتى لو أصبحوا مواطنين بالقانون فهم مُقْصون ثقافيًّا كما في المعاملات اليومية. والعلمانية التي تعني حياد الدولة أصبحت عند اليمين المتشدّد بمثابة عقيدة إقصائية، تمامًا كأي دين متشدّد يُقصي ما عداه.
إلا أن التسامح يضمر نوعًا من الاستعلاء، استعلاء المتسامِح مع المتسامَح معه. لذلك تطور التسامح إلى مبدأ الاعتراف المتبادل بين المختلفين في الثقافات والعقائد. وترجمة هذا الاعتراف المتبادل هو الإقرار بشرعية التعددية، وهي ليست تعددية بمعناها التقليدي السابق على الدولة، أي تعددية الطوائف والمذاهب والعشائر والإثنيات، بل التعددية بمعناها الديمقراطي الحديث، أي تعددية الأحزاب السياسية والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني، والتي ينشئها أو ينسحب منها بحرية أفرادٌ مواطنون باعتبار المواطنة هي هويتهم الجامعة، بغض النظر عن طوائفهم، ومذاهبهم، وعشائرهم وإثنياتهم.
إن الاعتراف المتبادل بين الثقافات هو اعتراف بتكافئها من حيث المبدأ، لكنها في واقع الأمر غير متكافئة في الحاضر كما في الماضي. فقد كان لفلسفة اليونان وعلومها تأثير على الثقافة العربية الوسطوية. وكان للعلوم العربية تأثير حين كانت العربية لغة العلوم. ثم أصبح لثقافة الغرب تأثير على العالم وما يزال.
والسؤال: هل الاعتراف بأية ثقافة يعني الاعتراف بمحتواها دون أي معيار؟ فهل مثلًا ختان الإناث ودمْغ الرؤوس كما تفعل بعض الطوائف خصوصيات ثقافية ينبغي الاعتراف بها؟ إنها سلوكيات ضد حق أساس من حقوق الإنسان وهو الحق في السلامة البدنية. كما أنه لا اعتراف بالأفكار والسلوكيات العنصرية ولا بالعقائد الإقصائية والتكفيرية.
لكن هذا الحوار بين الثقافات هو بمثابة تفاوض، وأي تفاوض لا بد فيه من امتلاك أوراق للإدلاء بها على طاولة الحوار. والحال أن الثقافات لا تتساوى في امتلاك هذه الأوراق. إن الدعوة إلى حوار الثقافات تفترض تكافؤ الثقافات وهي ليست كذلك. فحوار الثقافات هو كأي تفاوض يخضع لميزان القوي بين أطراف التفاوض. وقوة أية ثقافة اليوم ليست في أصالتها وأمجاد ماضيها، بل في الطلب عليها في عالم اليوم. أي في مدى قدرتها على خلق الثروة والمشاركة في المعرفة المتقدّمة.
للداعين لحوار الثقافات عندنا أن يدركوا أن الحوار ليس مجرد التذكير بأصالة ثقافتنا وأمجادها، بل هو الاعتراف بجدواها والطلب على منتجاتها في عالم اليوم. فحوار الثقافات أخذ وعطاء. فلا بد لثقافتنا أن يكون لها ما تقدّمه، أي أن تكون ثقافتنا منتجة لمعارف وعلوم مطلوبة في عالم اليوم، ولرأس مال بشري خلاق للثروة والمعرفة المتقدمة. وإلا فنحن لا نفعل سوى أن نطلب من الآخرين أن يتعاملوا مع ثقافتنا تعامل المتسامح. والمتسامح لا يعترف بندية المتسامَح معه. بل المطلوب هو الاعتراف، ولا يتم ذلك إلا إذا كانت قيم ثقافاتنا، والتي هي نتاج مخرجات نظام التربية والتعليم مهيأة لإعداد رأس مال بشري قادر على الابتكار، والمبادرة والمنافسة. وإلا فنحن لا نطلب سوى التسامح مع ثقافتنا وليس الاعتراف بنديتها بين الثقافات المتقدّمة في عالم اليوم.