الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الجنوب الشامل: المفهوم الاستراتيجي والسياق النظري، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

عبارة “الجنوب الشامل” (Global South) التي ظهرت أول مرة في أدبيات اليسار الطلابي الأمريكي في نهاية الستينيات، تحولت اليوم إلى مفهوم مركزي في العلاقات الدولية الجديدة.
لقد احتلت هذه المقولة مكان عبارة “العالم الثالث” التي بلورها عالم الاقتصاد والديمغرافيا ألفرد سوفي سنة 1952، وتحولت وقتها إلى مفهوم محوري في سياق صعود كتلة عدم الانحياز الرافضة لثنائية الاستقطاب الدولي بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي. نعني هنا مشروع باندونغ الذي بلورته النخب الآسيوية الإفريقية في سياق الحرب الباردة، وتولدت عنه حركة عدم الانحياز التي كان لها دور فاعل في الساحة الدولية في النصف الثاني من القرن العشرين قبل انهيار جدار برلين وتغير معطيات النظام الدولي. بيد أن هذه الحركة وإن أعلنت موقفها الحيادي من الصراع القطبي، إلا أنها في غالبها كانت تصنف ضمن الكتلة “التقدمية” أو “الاشتراكية” القريبة من العالم الشيوعي، وبصفة خاصة من “الثورة الصينية” التي شكلت نموذجًا للعديد من التجارب السياسية في العالم الثالث.
في كتابه “عندما يعيد الجنوب اختراع العالم”، يبين عالم السياسة الفرنسي برترناند بادي أن رمزية التحرر الوطني لم تنحسر في إفريقيا والعالم العربي، وما تزال حية ملموسة في مواجهة ما تعتبره الهيمنة الغربية ضد شعوب وأمم الجنوب، بل إنها تتغذى من فشل مشروع الدولة الوطنية في هذه البلدان التي اعتمدت منهج التحديث الغربي دون نتائج باهرة.

بيد إنما حدث مؤخرًا حسب بادي هو أن خارطة ونظام السلطة الاستراتيجية قد تغيرا نوعيًا، بحيث إن الصراعات الجديدة في العالم لا تحسمها القوة العسكرية، بل هي صراعات اجتماعية أساسًا يتحكم فيها الضعيف بدل القوي، وتتأسس على الترابط والتداخل في إطار العولمة بدل منطق السيادة التقليدي.

فعلى الرغم من الاختلاف الواسع من حيث الحجم والمصالح بين دول الجنوب الشامل، إلا أنها تلتقي في ما أطلق عليه بادي “ديبلوماسية السيولة” التي تتمثل في القدرة على عقد تحالفات ظرفية معقدة ومحدودة بحسب الخيارات اللامتناهية التي تسمح بها اللعبة الدولية الراهنة.

لقد أظهرت الحرب الأوكرانية الأخيرة أن الدول غير الغربية انتهجت مواقف مختلفة عن الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، رغم أن الصراع يبدو بوضوح حربًا دفاعية ضد الاحتلال الروسي. لقد اعتبرت دول الجنوب أن النظام الدولي يعاني من اختلالين خطيرين هما من جهة تحكم القوى الاستعمارية السابقة في القرارات المصيرية المتعلقة بالأزمات العالمية، ومن جهة أخرى انتهاج المعيارية المزدوجة في تنزيل القيم الحقوقية والديمقراطية في الواقع السياسي العيني.

ومن هنا مالت دول الجنوب إلى اعتماد الحياد في حرب تجري في العمق الأوروبي، استقطبت من الاهتمام ما لم تنله أي من حروب الإبادة والصراعات الإثنية والدينية التي خلفت ملايين الضحايا في العالم غير الغربي.

بيد أن هذه المعطيات السياسية الاستراتيجية ليست سوى وجه محدود من موضوع “الجنوب الشامل” الذي له خلفياته الفلسفية والمجتمعية العميقة.

نشير هنا إلى كتاب المؤرخ الهندي برسنجيت دوارا “أزمة الحداثة الشاملة” (The Crisis of Global Modernity) الذي ذهب فيه إلى نقد ما أطلق عليه “الكونية القمعية والتبسيطية” السائدة في الغرب، حيث يتم تحويل السردية الغربية إلى مسار إنساني شامل، بما ينجم عنه إهمال الثقافات والحضارات الجنوبية التي لها تصورات ورؤى مختلفة في الطبيعة، والأخلاق ونمط تدبير السلطة السياسية.

ومن هنا، يرى دوارا أن منظومة العولمة التي صاغها الغرب الحديث تعرف حاليًا ثلاث أزمات كبرى هي: صعود القوى الدولية غير الغربية، والأزمة المناخية وأزمة التعالي التي تعني غياب منابع الثقة والطاعة التي هي مدار السلطة ومسوغ الانقياد الإرادي لها.

ويخلص دوارا إلى أن الثقافات غير الغربية (الآسيوية على الأخص) تقدم بدائل عملية ناجعة، وفق ما سماه بالحداثة ما بعد الغربية في تصورها المغاير لثلاثية الإنسان، والطبيعة والكونية.

وإذا كان المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد قد بلور في كتابه الشهير “الاستشراق” المفاهيم الأولية لأدبيات ما بعد الكولينيالية (العلاقة العضوية بين المعرفة والسلطة في صنع الصورة الهامشية للآخر)، فإن الأدبيات الفلسفية والاجتماعية التي ظهرت لدى بعض المفكرين الآسيويين والأفارقة في السنوات الأخيرة، اتجهت إلى تفسير الأزمات السياسية والتنموية لدول الجنوب باستمرارية “المتخيل الاستعماري” رغم الاستقلال المعلن والسيادة القانونية المعترف بها دوليًا.

في هذا السياق، نشير إلى كتاب الفيلسوف والمؤرخ الكاميروني “أشيل بمبة” الذي صدر قبل سنوات بعنوان “ما بعد الكولونيالية”، وفيه يعتبر أن المتخيل الاستعماري ما زال حيًا في السياسات العمومية للدول الإفريقية من خلال ظاهرة “ترويض وضبط” الأجساد التي هي من آثار العنف الاستعماري الأصلي في ممارسته القمعية للسكان، على عكس التقاليد السياسية الإفريقية الأصلية المبنية على روابط الرعاية الأبوية والسلطة الرخوة التي لا معنى فيها للسيادة المطلقة واحتكار العنف العمومي. ومع تنامي العولمة المالية، انعكس المتخيل الاستعماري في ما أطلق عليه بمبة “الحوكمة الخاصة غير المباشرة” التي قوضت كليًا المفهوم الاجتماعي المدني للدولة في إطار سياسات “الإصلاح الهيكلي” المفروضة من صناديق التمويل الدولية.

في كتابه الآخر “نقد العقل الزنجي”، يذهب أشيل بمبة إلى القول بتلازم التصورات العرقية الإقصائية للإنسان الزنجي والاستغلال الرأسمالي الذي بدأ من محطة الاسترقاق الزراعي وتواصل مع الثورة الصناعية التقنية الغربية، وقد أصبح الزنجي اليوم رمزًا للكائن القربان التي تضحي به ماكينة السلطة الحيوية والرأسمالية الرقمية الرقابية.

ما نلمسه هنا هو تجاوز المفهوم الاستراتيجي السياسي للجنوب الشامل، نحو صراع نظري عميق له أدواته الإبستمولوجية والتأويلية الخاصة، وقد تركز في الفكر الآسيوي (الهندي والصيني) الذي يحيل إلى رؤية للعالم تختلف في الجوهر عن الثقافة الغربية التي ننتمي إليها بشكل أو آخر.