بعد اندلاع الحرب الأوكرانية الأخيرة تحدث أندريه كورتينوف مدير عام المجلس الروسي للعلاقات الدولية عن “نهاية النظام الليبرالي العالمي” الذي قام بعد نهاية الحرب الباردة.
ما يعنيه كورتينوف هو المقاربة التي اعتمدتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار المعسكر الشرقي وهي ربط نمط إدارة العلاقات الدولية بالمبادئ والمعايير الليبرالية بدلًا من فكرة توازن المصالح والقوة.
المعروف أن العلاقات الدولية في مرحلة الحرب الباردة تأرجحت في الخطاب السياسي الأمريكي والغربي إجمالًا بين الاتجاهين الواقعي والليبرالي (الذي يسميه البعض بالمثالي).
تقوم النزعة الواقعية على التصور التشاؤمي للعلاقات بين الأمم والدول، من منظور كونها تتحدد حسب محض التنافس والقوة، بحيث تصبح المسؤولية الأولى لنظام الحكم هي ضمان استقلالية وأمن البلاد في مواجهة التهديدات الخارجية. في هذا السياق، تبدو حالة الحرب وضعًا احتماليًا دائمًا يتطلب جمع وتكثيف عناصر القوة العسكرية والإستراتيجية وبناء التحالفات الدولية القادرة على تحصين الأمن القومي.
ولقد عبر الفيلسوف الألماني كارل شميت عن هذه الرؤية الواقعية بالقول إن الثنائية المؤسسة للسياسة هي ثنائية الصديق والعدو، بما يجعل منها دومًا ممارسة صراعية واستراتيجية مواجهة لا محيد عنها مهما كانت طبيعة المظلة الأخلاقية أو القانونية.
بيد أن الفكر الليبرالي الذي تشكل منذ نهاية القرن السابع عشر أثر بقوة على نظريات العلاقات الدولية من منظور مغاير للتصور الواقعي. ولقد تأسست هذه الرؤية الليبرالية للعلاقات الدولية التي برزت بقوة لدى جون لوك وإيمنيال كانط على ثلاث مسلمات أساسية هي: قدرة التجارة على تحسين السلوك البشري وترويض دوافع العنف والقوة لدى الإنسان والمجتمعات، ودور وفاعلية المؤسسات الدولية في ضبط العلاقات بين الأمم وفق قواعد العدالة والإنصاف والشراكة التضامنية، والطبيعة السلمية التلقائية للأنظمة الليبرالية التي ترفض منطق العدوان والحرب على عكس الأنظمة الأحادية التسلطية.
ومع أن هذه المفاهيم قديمة ومؤصلة في الفلسفة السياسية لعصور الحداثة والأنوار، إلا أنها شكلت جوهر المذهب السياسي للولسونية، نسبة للرئيس الأمريكي الأسبق ويلسون الذي صاغ في مبادئه الأربعة عشر خلال العشرية الثانية من القرن العشرين مبادئ مثالية للنظام الدولي تقوم على معايير الديبلوماسية الأخلاقية والشراكة المصلحية المتبادلة بين الأمم، وصولًا إلى مشروع وحدة الإنسانية في إطار مؤسسات جماعية قوية تحمي السلام العالمي.
ومع أن هذه الأفكار شكلت الخلفية العميقة للمؤسسات العالمية المعاصرة من عصبة الأمم إلى هيئة الأمم المتحدة، إلا أن التيار الواقعي ظل مهيمنًا على العلاقات الدولية طيلة الحرب الباردة، بما يفسر دعم الدول الليبرالية الغربية لأعتى الأنظمة استبدادًا وانتهاكًا لحقوق الإنسان من منظور المصالح القومية الضيقة.
مع نهاية الحرب الباردة، بدا أن النظام الليبرالي سيطر كليًّا على العلاقات الدولية، وكانت الحروب الأولى التي خاضتها القوى الغربية الكبرى عمليات تدخل عنيف من أجل حماية الأقليات المضطهدة أو كسر الأنظمة الديكتاتورية.
ولقد بلغ هذه الوضع أوجه مع مدرسة “المحافظين الجدد” في الولايات المتحدة الأمريكية خلال حقبة الرئيس بوش الابن، باعتبارها تبنت فكرة الترابط العضوي بين المصالح القومية الأمريكية وهدف نشر وتعميم القيم الليبرالية والديمقراطية في بقية العالم.
بل إن الرئيس الديمقراطي باراك أوباما تبنى التصور نفسه في رجوع علني لمبادئ الولسونية، مركزًا على قدرة الولايات المتحدة على التحكم في المؤسسات الدولية من أجل إعادة قولبة وضبط النظام العالمي وفق قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومع أن أوباما تجنب خلال ولايتيه حروب “التدخل الإنساني”، إلا أنه وقف مع ديناميكية “الربيع العربي” وتبنى خط الديبلوماسية الليبرالية في التعامل مع الملفات الدولية الساخنة.
وإذا كان الرئيس السابق “دونالد ترامب” أعلن الرجوع إلى الاتجاه الواقعي الأمريكي التقليدي، وانتقد بشدة النظام الليبرالي العالمي من منظور المصالح القومية، إلا أنه بلور مفهومًا جديدًا للواقعية بفصل المصالح الذاتية الأمريكية عن استراتيجية النفوذ الخارجي وبناء دوائر التحالف الدولي.
لقد اعتبر ترامب أن المؤسسات الدولية عبء على القوة الأمريكية ومن ثم ضرورة التحرر من التزاماتها المعيقة، كما رأى أن تركة الحلف الأطلسي غدت على حساب المصالح الأمريكية ومن ثم ضرورة تقاسم تكلفتها مع الشركاء الأوروبيين.
في هذا التصور، نلمس نمطًا جديدًا من الواقعية ساد في مناطق عديدة من العالم يمكن أن نطلق عليه “الواقعية الشعبوية” التي تختلف في المنطلقات والتصورات عن الواقعية السياسية الحديثة التي وإن كانت تتأسس على أفكار التنافس وتوازن القوة والمصالح، إلا أنها تتأقلم مع دور المؤسسات الدولية في حفظ السلم العالمي.
هل ما نشهده حاليًّا مع الحرب الأوكرانية الأخيرة هو انهيار النظام الليبرالي العالمي واستبداله بنمط من التعددية القطبية الجديدة التي تبرز في ظهور الكتلتين الروسية والصينية المنافستين للهيمنة الأمريكية على العالم؟
ما لا بد من تبيانه هو أن الفكرة الليبرالية التقليدية تتلاءم مع البناء المؤسسي الدولي باعتباره التجسيد العيني لمعايير الشراكة التضامنية العالمية بديلًا عن الحروب والعنف، في حين أن ما نشهده راهنًا هو انحسار القيم الكونية الضابطة للنظام الدولي.
فمن الجلي أن الصراع الراهن ليس صدامًا بين مشاريع أو رؤى أيديولوجية على غرار الصراع القطبي السابق بين الاشتراكية الشرقية والليبرالية الغربية. فبالنسبة للكتلة الغربية التي ترفع شعارات السيادة وحقوق الإنسان، لم يعد من السهل تبرير الحروب “العادلة” بالمنطق الليبرالي نتيجة للسياسات الخاطئة التي اتبعت في العقدين الأخيرين وفق ما غدا يطلق عليه باستراتيجية “المعايير المزدوجة” في التعامل مع الأزمات العالمية.
وبالنسبة لروسيا والصين، نلمس الرجوع إلى نمط من الواقعية التقليدية المتمسكة باعتبارات السيادة القومية والمصالح الحيوية، بمنأى عن أي مرجعيات معيارية أو قيمية.
في الحالتين، نلاحظ اختلال وتراجع النظم المؤسسية الضابطة للنظام الدولي، التي هي التعبير الموضوعي عن فكرة الكونية الليبرالية.