نظرًا لاضطرار الكثير من البلدان حول العالم،على إثر جائحة كوفيد-19، إلى التفكير مليًّافي حالات عدم المساواة ونقاط الضعف ضمن سياق أزمة صحية عالمية، فقد اتخذت دول العالم العربي تدابير مختلفة للصحة العامة بهدف السيطرة على انتشار الفيروس. وقد كانت لهذه التدابير، كما في سائر السياقات حول العالم، آثارسلبية بدرجات متفاوتة وعلى مجتمعات مختلفة.
إذًا، ومع إدراك التداعيات السلبية طويلة المدى لهذه الجائحة، كيف يمكن استغلال هذه اللحظة للتفكير الذاتي النقدي من حيث الحماية الاجتماعية؟
نظرة في المرآة
من الواضح أنه وفي مركز الأزمات،تكمن مجموعة من العوامل بما فيها السياسية، والبيئية، والاجتماعية، والاقتصادية.وليست جائحة فيروس كورونا باستثناء في هذه الحالة وذلك لارتباطها بشكل وثيق بتطور النموذج الاقتصادي والاجتماعي من عدمه وتعزيزه في العالم العربي. وقد أدرك العديدون عبر هذا التداخل أن الوقت قد حان لتحديد السياسات الاجتماعية، لاسيما المتعلقة بالفقر والتنمية المجتمعية، وتحسين جودة الحياة لعامة الناس،وخصوصًا الفئات الأكثر ضعفًا مثل كبار السن، والنساء والأطفال، والعمال المهاجرين واللاجئين.
ويبدو أن تحليل العالم العربي هي مهمة لا تنتهي، لاسيما فيما يتعلق بالأزمات طويلة الأمد، إلا أن أزمة كورونا أماطت اللثام عن مدى انتشار التحديات الأساسية في العالم العربي واستمرارها في التعمق. وطبقًا لسلسلة الحوارات الإقليمية التي أطلقتها منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية (أرض) حول وضع الحماية الاجتماعية في العالم العربي، فإن هذه التحديات تشمل التنمية المعتمدة على الجهات المانحة، والمشاركة غير الكفؤة للجهات الفاعلة المحلية، والاستثمار المحدود في البحث العلمي، والتراجع الاقتصادي ناهيك عن التحديات المتعلقة بالعمل وغيرها الكثير، مما أدى إلى إثارة الجدل مجددًا حول العلاقة بين الدولة والمجتمع في المنطقة العربية، وإلقاء الضوء على الحاجة إلى إحداث إصلاحات جذرية وتحولات من أجل مكافحة الفقر بشكل فعال،بالإضافة إلى ابتكار سياسات فعالة من أجل تنمية العمل،والرعاية الصحية، والتعليم، والرفاه الاجتماعي. كما أصبح من الواضح ضرورة سير ما سبق جنبًا إلى جنب مع تعزيز مشاركة الأشخاص، والحكومات، ومنظمات المجتمع المدني، في إحداث الإصلاح المنشود.
ومن منظور تعزيز القدرة على الاستجابة السريعة في المنطقة، فمن الواضح أن هذا الأمر يستلزم التخطيط المناسب لإدارة الكوارث والأزمات، بالإضافة إلى الاستثمار في الخدمات العامة. إلا أنه لتحديد طريقة استباقية وفعالة للمضي قدمًا، فلا بد من الاهتمام بضمان أمن الأفراد والمجتمعات من منظور شمولي. ومن الضروري إصلاح البنى والنظم المؤسسية لضمان فعالية سياسات الحماية الاجتماعية. وكما هو الحال، تبرز الهشاشة الواضحة لأنظمة الحماية الراهنة وافتقارها إلى الشمولية الحاجة لإيلاء اهتمام أكبر بالحقوق المدنية والكرامة الإنسانية من خلال التضامن بدلًا من إبداء الشفقة. ويتطلب هذا الأمر بشكل أساسي ضمان تحرر الناس من الخوف، والفاقة، والإهانة، ووضع الإنسان في مركز التحليل.
نظرة شاملة
مع تعمق الفجوة التي تفصل المجتمعات العربية عن المعايير العالمية للإنتاجية والاستقرار، أخذت نظم الحماية الاجتماعية في العالم العربي بالتراجع،أو كما قد يجادل البعض، في الغياب عن قصد. ولمعالجة هذ القضية، بالإمكان أخذ عدة نقاط في الاعتبار من حيث البدء بالالتزام بجهود التنسيق الفعالة والتشاركية، والاستثمار في التضامن الاجتماعي، وإعادة الثقة بين البلدان ومواطنيها. ويمكن تحقيق هذا جزئيًا عن طريق إنشاء حماية اجتماعية شاملة، وضمان استقرار أفضل للمجتمعات، وخاصة الطبقتين المتوسطة والفقيرة. والأهم من ذلك أنه لا بد لمسار الانتقال من الوضع الراهن للحماية الاجتماعية نحو تنميتها أن يتجاوز ميل الحكومات للعمل باستقلالية وذلك لضمان مشاركة الجهات المعنية بما فيها القطاع الخاص، والمجتمع المدني، والخبراء، والباحثون. وسيؤدي هذا الإطار التعاوني بالتحديد إلى توسيع نطاق الخدمات الحكومية للأفراد، بالإضافة إلى إيجاد مساحة لتطوير سياسة استباقية ومستنيرة.
ويجب أن يشمل هذا التعاون على وجه التحديد التدابير التي تستهدف تحقيق اقتصادات مستدامة، وتلك الخاصة بدعم شراكات استباقية طويلة الأمد مع القطاع الخاص وبنائها أيضًا. هذا ولا بد من تمكين القطاع الخاص لتجاوز دور “الجهة المانحة” وإعطاء الأولوية للتضامن على هوامش الربح، بالإضافة إلى ضمان معايير العمل، وحقوق العمال. وتعد بحوث السياسات الاجتماعية، على وجه التحديد، أمرًا محوريًا لجعل الحوار العام حول التحديات القائمة على مستويات متعددة في المجتمع أكثر نضجًا، وتحليل صياغة السياسات العامة وصنع القرار وترشيدها عبر تقديم التوصيات المدعمة بأدلة أيضًا. وينطبق هذا كذلك على آليات مشاركة المعرفة والتشبيك مثل شبكة الحماية الاجتماعية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تربط صناع السياسة والأكاديميين بهدف تعزيز السياسة الاجتماعية.
المضي قدماً
انطلاقًا من روح الحكم الرشيد والمواطنة الفاعلة، يجب على مختلف الجهات المعنية في العالم العربي البدء في الالتزام الفعلي بتجديد العقد الاجتماعي من أجل إعادة تقويم مبدأ “سير الأمور بالطريقة المعتادة”، نحو تحقيق المساءلة، والشفافية، والاستباقية، والوقائية.
ويمكن القول بوضوح التكامل بين المواطنة المسؤولة والحكم المسؤول الآن أكثر من أي وقت مضى، إذ يتطلب تعزيزه الاستثمار في الهياكل الإدارية لسياسات الحماية الاجتماعية وآلياتها وذلك من خلال المبادرات التي يكون الإنسان محورها، والتي تحدد إطار الحماية الاجتماعية ضمن إطار عمل قائم على الحقوق.
وعلى وجه الخصوص، فإن هناك حاجة لتسليط الضوء على أهمية محلية الجهود الإنسانية، وتعزيز الشراكات القائمة على الأدلة والاحترام المتبادل والتعاون بين الجهات المعنية، وفهم العوامل الهيكلية لعدم المساواة، وكيفية ارتباط هذه العوامل بالحماية الاجتماعية.
ولعل الأمر الوحيد الأكيد في هذه المرحلة هو ضرورة أن يرتكز مستقبل العالم العربي في مرحلة ما بعد كوفيد-19 على بناء مفهوم الشراكة بين الجهات الفاعلة بطريقة تضمن الحفاظ على الحقوق الاجتماعية للمواطن العربي.