الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الخلدونية والدولة الوطنية الحديثة، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

تحدثنا في الأسبوع الماضي عن عدم ملاءمة الخلدونية مع التاريخ الإسلامي الوسيط منذ العصر المملوكي وسنتعرض اليوم لحدود هذه المقاربة في فهم ومعالجة الإشكالات السياسية الراهنة للدولة العربية الحديثة.
نلاحظ هنا أن المنهجية الخلدونية أعيد استكشافها في إطار ما عرف بالمقارنة الانقسامية segmentarism في الدراسات الأنثربولوجية للقبيلة العربية.

يعود هذا المفهوم إلى عالم الاجتماع الفرنسي المشهور أميل دوركايم في تمييزه المعروف بين التضامن الميكانيكي في المجتمعات السابقة على الدولة والتضامن العضوي في المجتمعات الحديثة المترتب على نظام قسمة العمل وما يفضي إليه من جمع بين التمايز الطبقي وترابط وتداخل المصالح بين أفراد تحكمهم أواصر نفعية مشتركة.

إلا أن هذا المفهوم قد عرف أساسًا لدى العالم الأنثربولوجي البريطاني إيفانس بريتشارد في دراسته حول قبائل النوير في جنوب السودان. في هذه الدراسة يتحدث بريتشارد عن انتظام البنية الاجتماعية في هذه القبائل البدوية الرعوية حول مفهوم “الفوضى المنظمة” المتمثلة في ثنائية الانصهار والانشطار المانعة لتشكل قطب سلطوي مركزي ينعقد له ولاء المجموعة القبلية.

وقد مدّد عالم الأنثربولوجيا التشيكي-البريطاني إرنست غلنر هذا النموذج الانقسامي إلى قبائل الأطلس المغربية التي تقوم على نفس مبدأ التضامن الأفقي المانع لقيام سلطة مركزية، بما يفسر دور “الأولياء” في حل النزاعات الداخلية والمحلية، بما يكفل استقلالية وتميز الوحدات القبلية عن بعضها البعض دون الحاجة إلى الدولة المركزية.

وقد قدمت عدة دراسات مماثلة حول القبيلة العربية في الشام والعراق وليبيا واليمن، من منظور المنهجية الانقسامية ووظفت لها الأطروحة الخلدونية في العصبية، باعتبارها تقدم تفسيرًا مقنعًا لوجود سلطة سياسية تستند إلى شرعية الدعوة الدينية وإن كانت تقوم موضوعيًّا على التركيبة القبلية.

في هذا السياق توظف القاعدة الخلدونية الشهيرة التي وردت في “المقدمة”: “إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة”.
وفق هذا المبدأ، عالج الجابري (الذي كان بدأ مساره الفكري بكتاب عن العصبية والدولة عند ابن خلدون) العقل السياسي العربي من منظور خلدوني وفق ثلاثية القبيلة والغنيمة والعقيدة، ولو باستخدام أدوات نظرية جديدة.

يبدو من الواضح أن جل الباحثين الاجتماعيين العرب انتبهوا إلى دور الحداثة البيروقراطية والمؤسسية في إعادة بناء النظم السياسية العربية، لكنهم احتفظوا بجوهر الرؤية الخلدونية في النظر إلى البنيات الاجتماعية من حيث هي هياكل عصبية وعشائرية تدخل في باب الهويات الأبوية الجديدة والبطركية حسب اصطلاحات ماكس فيبر.

من هذا المنظور، يتعين التنبيه إلى أعمال هشام شرابي وبصفة خاصة كتابه “النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي” الصادر سنة 1992. في هذا الكتاب، يرى شرابي أن قشرة الحداثة الخارجية تتعايش في السياق العربي مع بنيات أبوية ذات طابع قبلي وطائفي تتأسس على معايير التراتبية العمومية، والخضوع الأعمى، والتبعية الآلية، والسلطة القهرية والهيمنة الذكورية، بما يتعارض مع أفكار المساواة والحرية والفردية التي هي مرتكزات الحداثة.

ولا يختلف كتاب حليم بركات  “المجتمع العربي المعاصر” الصادر سنة 1991 عن هذا التوجه في نقده للبنيات الاجتماعية العربية التي تسيطر عليها الهياكل العصبية والجماعات الوسيطة، وتضعف فيها المواطنة والفردية والحرية.

ويمكن أن نسترسل في عرض الكتابات الفكرية العربية التي تناولت أزمة المجتمعات العربية من هذه الزاوية المنهجية، التي تعود في منطقها البعيد إلى الأطروحة الخلدونية.

ما يتعين التنبيه إليه هنا، هو أن الدراسات التاريخية الرصينة للدولة العربية الحديثة بينت أهمية العوامل السياسية في تشكل القبيلة بما يقتضي مراجعة المسلمات السائدة حول صلابة واستقلال واستمرارية الهويات القبلية.
فإذا كانت القبيلة شكلت في العصر الخلدوني مادة الفعل السياسي إيجابًا وسلبًا، بما فرض تكيف المشاريع السياسية مع المعطيات العصبية الضرورية لبناء الدولة أو الخروج عليها، إلا أن الحداثة قامت على منطلقين مختلفين عن هذه المرجعية التاريخية وهما: مركزية العامل السياسي في تشكيل الهوية الجماعية، وحركة التمايز بين المجتمع والدولة.

وفق المبدأ الأول، نلاحظ أن السياسة لم تعد مجرد دائرة من دوائر النظام الاجتماعي، بل غدت هي المحدد الحاسم في بنائه واستمراريته، بما تؤكده فكرة السيادة التي تقوم عليها الدولة الحديثة، وهي كما هو معروف سيادة مطلقة كاملة لا تقبل التجزؤ ولا التنازل. وما دامت الدولة تتمتع بكل معاني السيادة، فهي مهيمنة على كل مستويات البناء الاجتماعي، وتخضعها لآليات الضبط والتدبير الناجعة.

وبحسب المبدأ الثاني، لئن كانت الدولة هي التعبير المؤسسي عن الهوية الجماعية المشتركة، إلا أنها في حالة تميز عن المجتمع المدني الذي هو إطار الحرية الفعلية للطبقات والفئات الاجتماعية ضمن نسق تعددي ومفتوح. ذلك ما أدركه الفيلسوف الألماني هيغل وربطه بنظام قسمة العمل وبنى عليه أطروحته حول الدولة، وأسس عليه كارل ماركس تصوره للصراع الطبقي في المجتمعات الصناعية الرأسمالية.

ومن الجلي أن المفكرين الحداثيين العرب يرفضون إجمالًا تحقق هذه المقتضيات في الحالة السياسية العربية الراهنة، ولا يرون في المرجعيات الدستورية والقانونية للدولة الحديثة سوى أشكال صورية زائفة تقنع الواقع العصبي والأبوي لهذا الكيان السياسي “المستورد”.

بيد أن التحليل الثقافي الاجتماعي يبين أن الدولة العربية الحديثة وان كانت تستبطن الموروث الاجتماعي في المتخيل الثقافي، إلا أنها نتاج عملية تاريخية معقدة من محدداتها: الاندماج الضروري اقتصاديًّا واستراتيجيًّا في حركية عالمية تقوم على منطق الدولة الوطنية والتمايز بين المجتمعي والسياسي، وإعادة تشكل الهياكل المجتمعية وفق النظم القانونية والمؤسسية للدولة الحديثة بحيث لا يمكن اعتبارها مجرد غطاء أيديولوجي أو واجهة شكلية.

ذلك ما بينه بالدليل المقنع مؤرخ بارز مثل عبد الله العروي في كتابه حول جذور الوطنية المغربية، وبينه عالم اجتماع متخصص في الدراسات الخلدونية مثل علي الوردي في دراساته حول المجتمع العراقي المعاصر.

وكما قال هيغل “من شأن الشكل أن يولد المضمون”، والحال أن الدولة العربية الراهنة، مهما قلنا عنها، ليست نسخة من الدولة العصبية التقليدية، بل هي دولة حداثية رغم اختلالاتها البنيوية التي لا خلاف حولها.