الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الدولة العربية بين الإنجاز الفردي والإخفاق الجماعي، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

أصيب كثيرون بالدهشة في عام 2010 حين قررت قطر خوض غمار المنافسة على استضافة وتنظيم مسابقة كأس العالم لكرة القدم لعام 2022، لأنه لم يُعرف عن قطر أي ولع خاص بلعبة كرة القدم، ولم يسبق لفريقها الكروي أن وصل إلى المستوى الفني الذي يؤهله للمشاركة في أي من دورات كأس العالم السابقة لهذه البطولة العالمية التي انطلقت قبل أكثر من أربعين عامًا من ظهور قطر على المسرح الدولي. وحين أعلن جوزيف بلاتر، الرئيس السابق للاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، أن قطر هي الدولة التي وقع عليها الاختيار لاستضافة دورة 2022، تحولت الدهشة إلى ما يشبه الذهول خاصة بعد أن تبين أن الملف الذي تقدمت به قطر كان الأكثر تميزًا وأنه تفوق على كل ما عداه من الملفات، بما في ذلك الملفات التي تقدمت بها دول كبرى، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، كانت تعتقد أنها الأكثر جدارة لأن تحظى بهذا الشرف الكبير. فكيف لدولة تقل مساحتها عن 12 ألف كيلومتر مربع ولا يتجاوز تعداد سكانها الأصليين نصف مليون نسمة، ويقل إجمالي قاطنيها عن ثلاثة ملايين نسمة، أن تنجح في تنظيم حدث عالمي بهذه الضخامة، وأن تصبح جاهزة لاستضافة كل هذا الكم من البشر الذي قد يوازي أو يزيد عن عدد كل سكانها. صحيح أن قطر دولة غنية، لكن تنظيم حدث على هذا القدر من الضخامة يحتاج إلى ما هو أكثر بكثير من الموارد المالية. فهو يحتاج أولًا وقبل كل شيء إلى عقول قادرة على التخطيط الدقيق وعلى التحسب والاستعداد لمواجهة كل الاحتمالات، كما يحتاج إلى جهاز إداري فائق الكفاءة، وإلى أجهزة أمنية كبيرة ويقظة، وإلى شركات كبرى تعمل -ليل نهار- لإنجاز البنية التحتية اللازمة لتسكين واستضافة مئات اللاعبين وملايين المشجعين، وتهيئة أجواء الترفيه المناسبة لإنجاح حدث ضخم تتابعه كل أربع سنوات الأغلبية العظمى من سكان كوكب الأرض.

​كلنا يعلم أن قطر تعرضت على مدى السنوات الاثني عشر المنقضية لحملات إعلامية قاسية وممنهجة، تتهمها تارة بانتهاك حقوق العمالة المهاجرة، وتارة أخرى بالرجعية وعدم التسامح مع الثقافات والتقاليد المختلفة، لكنها سارت في طريقها لا تلوي على شيء إلى أن حان الموعد لانطلاق هذا الحدث العالمي الكبير، وحينئذ فوجئ العالم بأن هذا البلد الصغير قادر على القيام بمعجزة كبيرة. إذ يُجمع المراقبون على أن الدورة 2022 من مسابقة كأس العالم تبدو الأفضل على الإطلاق في تاريخ المسابقة، سواء من حيث كفاية ومتانة البنية التحتية، أو من حيث دقة التنظيم وسلاسة الإجراءات المتبعة، أو من حيث الأجواء المحيطة باللاعبين والمشجعين.. إلخ. والأهم من ذلك أن قطر بدت قادرة على وضع بصمتها الثقافية على هذه النسخة من كأس العالم، باعتبارها بلدًا عَرَبِيًّا ينتمي لدائرة الحضارة الإسلامية، وهذا إنجاز كبير ينبغي أن يكون مثار إعجاب وفخر لكل الأقطار والشعوب العربية.

ربما يقول قائل إن حجم الأموال التي أنفقت على تنظيم هذا الحدث الكبير تجاوز العائد المتوقع منه، بما في ذلك العائد المعنوي والدعائي. فالتقديرات الأولية عن حجم هذا الإنفاق تشير إلى أنه تجاوز 230 مليار دولار، وهو مبلغ يوازي تقريبًا إجمالي ما أنفق على كل دورات كأس العالم التي نظمت منذ انطلاقها عام 1930. وقد يقول آخر إن البنية التحتية التي شيدت خصيصًا لهذه المناسبة، خاصة ما يتعلق منها بالملاعب والتجهيزات الرياضية، تفوق بكثير احتياجات قطر المستقبلية، ومن ثم فربما لا يستطيع هذا البلد الصغير أن يستفيد منها على النحو الأمثل، اللهم إلا إذا نجح في استضافة أحداث رياضية مماثلة ومتكررة على المستوى الإقليمي، وهو أمر غير مؤكد أو مضمون. غير أن هذه الأبعاد، والتي يغلب عليها الطابع الفني، تخرج عن نطاق اهتمامنا. ما يهمني هنا أكثر هو البحث في الأسباب التي تجعل الدول العربية قادرة على تحقيق إنجازات فردية وعاجزة عن تحقيق إنجازات جماعية في الوقت نفسه. فلا شك عندي أن قطر كسبت الرهان واستطاعت أن تكون على مستوى التحدي، ومن ثم تمكنت من تحقيق إنجاز كبير لا يمكن لأحد أن ينكره أو يشكك في جدواه، بينما العمل العربي المشترك يتعثر ولا يجد من يأخذ بيده أو يقيله من عثرته، إلى درجة أن النظام الإقليمي العربي يبدو حَالِيًّا في أسوأ حالاته وعلى وشك الانهيار. ولأن قطر ليست الدولة العربية الوحيدة التي يمكنها تحقيق إنجازات فردية على هذا المستوى، فمن حقنا أن نتساءل: لماذا تنجح الدول العربية بين الحين والآخر في تحقيق إنجازات كبرى على المستوى الفردي، وفي مجالات هامشية نِسْبِيًّا، بينما لا تستطيع تحقيق إنجازات مماثلة على مستوى القضايا الوطنية الكبرى، كالتنمية المستقلة والأمن الوطني والديمقراطية، أو على مستوى القضايا القومية والعمل العربي المشترك، كالأمن الجماعي والتكامل الاقتصادي ومواجهة المشروع الصهيوني.. إلخ؟

 

​فالعالم العربي يملك في الواقع إمكانات هائلة قادرة على أن ترتفع به إلى مصاف الدول الكبرى المتقدمة، لكنه يبدو عاجزًا عن استغلالها واستثمارها كما ينبغي. فمساحته الإجمالية تزيد عن 14 مليون كيلومتر مربع، ويبلغ تعداد سكانه ما يزيد عن 400 مليون نسمة، ويملك من احتياطات النفط والغاز أكثر بكثير مما تملكه أي دولة أخرى منفردة في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا، ومع ذلك نجده يعتمد على الخارج لإشباع معظم احتياجاته، خاصة في مجالي التسليح والأمن الغذائي، بل وتعاني أغلبية سكانه من ثلاثية الجوع والفقر والمرض، بل وانعدام الأمن وغياب الاستقرار، وهو ما يدفع الآلاف من شبابه إلى ركوب قوارب الموت بحثًا عن لقمة عيش كريمة في أماكن أكثر استقرارًا وأمنًا. وهنا تتجلى المفارقة الكبرى بين قدرة بعض الدول العربية على تحقيق إنجازات باهرة في مجالات تبدو قليلة الأهمية نِسْبِيًّا أو ثانوية، وإخفاقها التام في تحقيق إنجازات تذكر، سواء على الصعيد الوطني، بالانعتاق من أسر التبعية، أو على الصعيد القومي، بالتكامل الاقتصادي ومواجهة المشروع الصهيوني الذي يستبيح مقدّرات الشعب العربي في فلسطين ويشكل تهديدًا وُجُودِيًّا لكل الأقطار العربية. وفي تقديري أن هذه المفارقة تعود إلى عوامل وأسباب عديدة، أهمها:

أولًا: طبيعة الأنظمة الحاكمة في العالم العربي: فجميع هذه الأنظمة دون استثناء تعتمد في بقائها على رضا وثقة قوى خارجية، تقبل تقديم الحماية لها ووضعها تحت جناح مظلتها الأمنية، في مقابل مكاسب اقتصادية أو سياسية ضخمة تحصل عليها من ثروات شعوبها وبالخصم من استقلالها الوطني، وذلك بأكثر مما تعتمد على رضا وثقة شعوبها. ولأنها تحتاج في الوقت نفسه إلى غطاء داخلي، فمن الطبيعي أن يسمح لها أحيانًا بالحركة الحرة داخل فضاءات ثانوية لا علاقة لها بقضايا الاستقلال الوطني أو التنمية المستقلة، لكنها تساعد على اكتساب الشعبية.

ثَانِيًا: ميل دائم لشخصنة أي إنجاز يتحقق على الأرض، فكل إنجاز هو من صنع الحاكم وإلهامه. ولأن نظم الحكم الفردية لا تحتاج إلى مؤسسات لصنع القرار ولا ترغب في أن يكون لها شريك في اتخاذه، فمن السهل على الحاكم الفرد شحن همم أجهزته الأمنية والإدارية التي يعتمد عليها اعتمادًا مطلقًا في حكم البلاد، وذلك لفرض حالة تعبئة عامة تساعد على تحقيق الإنجاز المطلوب في الوقت المحدد، دون أن يشغل نفسه كثيرًا بقضية التوازن بين التكلفة والعائد، ودون أن يعير أي اهتمام لوجود دراسات جدوى من عدمه، فالخزائن مفتوحة على مصراعيها أمام الحاكم ليغرف منها بلا رقيب أو حسيب.

​لست ضد تحقيق إنجازات تسهم في إسعاد الشعوب العربية، ولو لبعض الوقت، لأن من حق شعوبنا العربية المهيضة الجناح أن تفرح وأن تلتف حول رايات وطنية توحدها كلما وجدت إلى ذلك سبيلًا، لكن على قادتنا وحكامنا أن يدركوا في الوقت نفسه أن الإنجازات الحقيقية هي تلك التي تسهم في تقوية الأوطان والارتقاء بها. صحيح أن في عالمنا العربي دولًا وشعوبًا غنية، وأن من بينها من يشعر إجمالًا بالأمن والطمأنينة، لكن على هذه الدول والشعوب أن تنتبه في الوقت نفسه إلى حقيقة أساسية وهي أن مصيرها ومستقبلها يرتبطان عُضْوِيًّا بمصير ومستقبل بقية الشعوب العربية، وأن شعورها بالأمن والطمأنينة سيظل مؤقتًا ولن يتحول إلى شعور دائم وحقيقي إلا إذا عمّ كل الشعوب العربية في الوقت نفسه. ولأن أي دولة عربية لن تستطيع بمفردها تحقيق أمنها أو تنميتها أو استقلالها الوطني، مهما بلغ حجم مواردها، فعليها أن تدرك يقينًا أن الحل الوحيد لضمان الأمن للجميع يكمن في التكامل العربي، وهو هدف ممكن وقابل للتحقيق إذا تم اتباع المنهج العلمي وشاركت الشعوب في اتخاذ القرارات المصيرية.

​مبروك لقطر هذا الإنجاز الكبير، لكن عليها أن تتذكر أن الإنجاز الأكبر ما زال غائبًا ولن يتحقق إلا بالتكامل العربي الذي بات على الشعوب العربية أن تشارك في صنعه.