على الرغم من الاختلاف الكبير بين مسار دولتي ليبيا والسودان من حيث التاريخ والتركيبة المجتمعية والتحولات السياسية، إلا أن وضعهما متداخل ومترابط من عدة أوجه ومناحٍ.
ولقد لعبت الطريقة السنوسية في ليبيا نفس الدور الذي أدته المهدية في السودان، وهما دعوتان إصلاحيتان سياسيتان تزامنتا تاريخيًّا، وتقاطعتا من حيث المجال الجغرافي واصطدمتا في بعض الأحيان.
ومن المعروف أن الدعوة السنوسية التي ظهرت في برقة والجبل الأخضر والجغبوب هي التي أسست النزعة الوطنية الليبية المركزية على العمق الصحراوي الساحلي (من منطقة الساحل الإفريقي وليس السواحل البحرية التي كان يسيطر عليها العثمانيون).
ولا شك في أن حركة المقاومة ضد الاستعمار الإيطالي وحركة بناء الدولة الموحدة من نتاج وآثار هذه الحركة الإصلاحية الصوفية التي استمرت في الحكم حتى انقلاب العقيد القذافي في أيلول/سبتمبر 1969.
ولقد ظهرت الحركة المهدية في السودان في نفس الفترة أي في منتصف القرن التاسع عشر. قاد الشيخ محمد أحمد المهدي الثورة ضد الحكم التركي المصري ونجح في إقامة دولة قوية استمرت إلى سنة 1898. وعلى الرغم من هزيمة الحركة المهدية، إلا أنها تحولت إلى مركز قوي للوطنية السودانية، بما يبرز دومًا خلال الفترات الانتخابية حيث يحقق حزب الأمة القومي الذي هو الجهاز السياسي لجماعة الأنصار المهدية نتائج نوعية تعده لصدارة الحكم.
في سنة 1969، حصل انقلاب جعفر النميري في السودان وانقلاب القذافي في ليبيا، ويتعلق الأمر بحركتين متشابهتين من حيث التوجه والإخراج، كلاهما تبنى القومية العربية مع مسحة يسارية، وكلاهما كان مدعومًا من مصر الناصرية.
وفي سنة 1971، تدخل القذافي في الصراع السياسي الداخلي في السودان واستطاع إنقاذ نظام النميري الذي سقط في انقلاب قاده الحزب الشيوعي الذي كان مكينًا أوانها.
وعلى الرغم من غرائبية النظام الجماهيري الذي أقامه القذافي سنة 1977، إلا أن التجربة السودانية لم تختلف في عهد النميري عن الحالة في ليبيا، فقد أصبح “الاتحاد الاشتراكي السوداني” الحزب الحاكم الوحيد، وغدت المؤسسة العسكرية السلطة المطلقة في البلاد.
وإذا كان النميري سقط على إثر انتفاضة شعبية عارمة في نيسان/أبريل 1985، فإن القذافي استمر في الحكم إلى اندلاع ثورة 2011 التي أطاحت به قبل أن يلقى مصرعه في أكتوبر من نفس السنة. ولا شك في أن القذافي الذي كان يحكم دولة نفطية غنية توفرت له من أسباب القوة والحماية ما لم يتوفر لنميري الذي واجه تمردًا قويًّا من الحركة الجنوبية الانفصالية، ومعارضة شرسة من الأحزاب السياسية والمجتمع المدني.
يعيش البلدان حاليًّا نفس الوضع السياسي: انقسامًا في أعلى هرم السلطة، وتفكك الدولة، واندلاع ضروب من الحروب العرقية والطائفية وتعطل مسار الانتقال الديمقراطي.
في البلدين، تبرز عسكرة الصراع السياسي، بوجود عدد من القوى السياسية المسلحة المتصادمة: الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر في شرق ليبيا والمليشيات الحاكمة في طرابلس ومصراتة والزنتان..(ليبيا)، والجيش الوطني السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق حميدتي، والحركات المتمردة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق (السودان).
في ليبيا، تعثر مسار الانتقال السياسي بقيام حكومتين وبرلمانين يتنازعان الشرعية بما عقد عملية الاحتكام الديمقراطي عبر الانتخابات التعددية الحرة، وفي السودان حالة مماثلة من سماتها الظاهرة صراع الشرعية بين المؤسسة العسكرية وقوى الحرية والتغيير التي تمثل أساس الحركة المدنية التي أسقطت نظام عمر البشير في نيسان/أبريل 2019.
قد يكون المجتمع الأهلي لا يزال قويًّا وفاعلًا في السودان، الذي تضطلع فيه الطرق الصوفية (المهدية والختمية والتجانية) بدور محوري في ضبط النسيج الاجتماعي، في حين تراجع دور السنوسية في ليبيا وإن كانت ما تزال حاضنًا دينيًّا ورمزيًّا صلبًا وإن انحسر زخمها السياسي (رغم صدور بعض المطالبات بعودة الملكية السنوسية ولو في شكل واجهة شرفية).
إلا أن الحل السياسي المنشود في البلدين يقتضي حتمًا الاستناد إلى قوة وفاعلية المجتمع الأهلي، من مكونات قبلية وروحية، بالنظر إلى هشاشة وضعف الهياكل السياسية المركزية للدولة، وعجز المؤسسة العسكرية المفككة عن سد فراغات النظام الإداري البيروقراطي الشرعي.
في السودان، لا يمكن النظر إلى الجيش الوطني بصفته مؤسسة عسكرية مركزية، نتيجة لكونه تأسس منذ البداية على أساس هيمنة المركز الشمالي (المنطقة النيلية وساحل البحر الأحمر) على أطراف السودان في الغرب والشرق، ثم أنه خضع لإعادة تأسيس أيديولوجي في عهد الرئيس السابق عمر البشير، وهو اليوم في التحام مع مليشيات الحركة الإخوانية المحظورة رسميًّا. وعلى الرغم من اتفاق جوبا بين حكومة الخرطوم والحركات المسلحة في تشرين الأول/أكتوبر 2020، إلا أن الجماعات التي وقعته احتفظت عمليًّا بقواتها العسكرية، كما هو جلي في المشهد الراهن. وباستثناء حركات المقاومة المدنية وبعض الأحزاب الأيديولوجية الصغيرة (مثل حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي)، لا يزال الحزبان القوميان (حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي) بخلفياتهما الطرقية، يشكلان مرتكز الحياة السياسية السودانية.
في ليبيا، تشكل القبائل الكبرى (ورفلة، وترهونة، وزناتة، والعواقير، والعبيدات، وأولاد سليمان، والطوارق والتبو…) أهم مكونات الحقل السياسي، وتتقاطع وتتداخل مع الأنساق الحزبية ومع خارطة النفوذ الخارجي، ومن هنا أهمية العودة إلى ديناميكية المجتمع الأهلي، استئناسًا بتجربة الحركة السنوسية التي استطاعت في السابق احتواء المعادلة القبلية المحلية في مشروع روحي وطني مهد لوحدة الدولة واستقلالها.
وعلى الرغم من تباين المسار السوداني والمسار الليبي، إلا أننا نعتقد أن استراتيجية الحل المطروحة في الحالتين تتطلب الجمع بينهما في مقاربة مشتركة، باعتبار أن جبهة المواجهة الأكثر حدة تكمن اليوم في إقليمي فزان ودارفور وهما منطقتان شديدتا الترابط والتداخل. الأمر يتعلق في العمق بإعادة بناء الدولة في البلدين على أساس نفس القاعدة: سلطة مركزية بجيش واحد، ومجتمع أهلي نشط لترميم النسيج الداخلي المتصدع.