ناحوم تشومسكي عالم لغويات أمريكي من أصول يهودية، يعتبر من أهم اللسانيين المعاصرين بنظريته الشهيرة في “النحو التوليدي” كما أنه عرف بموقفه النقدي للصهيونية وسياسات إسرائيل الاستعمارية القمعية.
أصدر تشومسكي مع المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه كتابًا هامًا بعنوان “حول فلسطين “On Palestine صدر سنة 2015 بعد حرب غزة التي اندلعت عام 2014.
في هذا الكتاب الذي ضم مقالات ودراسات وحوارات ثنائية حول الموضوع الفلسطيني، يتم تناول ماضي القضية العربية الأولى وحاضرها ومستقبلها، من خلال التعرض لأوضاع الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، دون التردد في نعت ما يوصف في المناطق المحتلة بالإبادة الجماعية والفصل العنصري.
في الكتاب يتحدث تشومسكي عن مسار الأيديولوجيا الصهيونية التي أصبحت منذ 1948 العقيدة الرسمية لدولة إسرائيل. قبل هذا التاريخ، كان طموح النخب اليهودية يتمحور حول إنشاء مركز ثقافي يمكن أن يستقطب مجموعات خارجية تعيش بسلام وأمن مع الفلسطينيين دون الحاجة إلى دولة وطنية بالمعنى السياسي والقانوني الحديث.
وعلى عكس الدعاية الإسرائيلية، يرى تشومسكي أن العرب طرحوا منذ السبعينيات فكرة الاعتراف بإسرائيل وتقاسم أرض فلسطين الكبرى معها، لكن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل عرقلتا هذا التوجه. وحتى عندما زار الرئيس المصري السادات إسرائيل ووقع اتفاقية سلام معها، واجهت إسرائيل مقاربته في حل المسألة الفلسطينية بالتشدد والرفض.
وهكذا أصبحت الصهيونية تكتسي دلالات جديدة، تتركز في فرض الاعتراف بإسرائيل كدولة قومية يهودية، إلى حد مطالبة الفلسطينيين بأن يقروا بأن إقصاءهم مبرر، كشرط للتفاوض السياسي معهم. وحين يطالب رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو الفلسطينيين بالاعتراف بالدولة القومية اليهودية، يدرك أن هذا الشرط تعجيزي، وهو بذا يريد وقف أي ديناميكية سلام ممكنة.
ويبين تشومسكي أن الاعتراف بالدولة القومية اليهودية لا معنى له في منطق السياسة الدولية الراهنة، فلا أحد يمكنه أن يعتبر الولايات المتحدة الأمريكية دولة مسيحية أو باكستان دولة مسلمة وإن اتسمت رسميًا بهذه التسمية التي لا تلزم الآخرين.
فالصهيونية ليست لها دلالة ثابتة، وتؤدي حاليًا دور عرقلة أي حل سلمي أو توافقي في فلسطين.
في السياق ذاته، يرى إيلان بابيه أن جوهر الصهيونية هو الاستعمار الاستيطاني، وهي فكرة ناشئة عن تصور مشروع تجديد الهوية اليهودية عن طريق النزعة القومية بالمفهوم الحديث للعبارة. ومن هنا، يبقى العنصر الثابت في الأيديولوجيا الصهيونية رغم تحولاتها هو هذه المقاربة الاستيطانية التي تنعكس على رؤية السكان الأصليين للأرض من حيث هم عوائق أمام نجاح المهمة المنشودة. وهكذا تكون الدولة أداة لاستكمال هذا المشروع الاستيطاني الذي هو الأفق الثابت للنزعة الصهيونية.
الأمر هنا يتعلق بنمط خاص من الاستعمار هو الاستيطان القسري المفضي إلى التصفية العرقية والإبادة الجماعية، كما جرب من قبل في أمريكا وأستراليا. إلا أن الفرق الأساسي بين الوضع الإسرائيلي الحالي والتجارب السابقة، هو أن القادة الصهيونيين يعتبرون أن حرب 1948 وما تلاها من احتلال 1967 وحركة استيطان كثيفة لم تسمح باستكمال هذا المشروع الذي يهدف إلى تصفية الوجود الفلسطيني الكامل وتوسيع سيادة ونطاق “الدولة اليهودية”.
يرى تشومسكي في هذا الباب، أن إسرائيل هي نمط راهن من الاستعمار الاستيطاني الذي شهده العالم منذ القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، ومن هنا عمق المشكل. ولذا؛ فالأمر لا يتعلق بدولة عادية أو طبيعية، بل إن مشروع الدولة اليهودية هو في نظره حالة غير قابلة للفهم والاستيعاب. إن هذا المشروع يقوم على مقدمات واهية، لأنه يرفض فكرة المواطنة المتساوية التي تتأسس عليها اليوم الدولة الوطنية الحديثة، مهما كانت ظروف تشكلها التاريخية. فالقول بالدولة اليهودية نشاز في عالم اليوم وحالة لا شبيه لها في أي منطقة من المعمورة. في إسرائيل وحدها من بين دول العالم، هناك تمييز بين الهوية الوطنية والهوية القومية، فلا يوجد انتماء إسرائيلي بالمعنى القانوني والمدني المعاصر. وذلك ما ندركه من خلال رفض المحكمة العليا الإسرائيلية مطالبة بعض الإسرائيليين بالحصول على وثائق إدارية تنص على أنهم مواطنون إسرائيليون وليسوا يهودًا.
ويخلص تشومسكي إلى القول بأن نتنياهو عندما يطالب بالاعتراف بالطابع اليهودي للدولة، يعني في نهاية المطاف أن تتمتع إسرائيل بحق استثنائي لا وجود له في العالم.
يتعرض تشومسكي في هذا الكتاب إلى مسببات الدعم الأمريكي البريطاني لإسرائيل، معتبرًا أن لا علاقة له بالضرورة بأحداث المحرقة في العهد النازي. فالمجموعات الصهيونية كانت لها قبل هذه الأحداث أذرع عسكرية قوية، وكانت تتمتع بدعم خارجي قوي. لقد نشأت الصهيونية المسيحية قبل الصهيونية اليهودية، في أوساط النخب الحاكمة في أمريكا والمملكة المتحدة. ومن هنا ندرك أن مشروع الدولة اليهودية نشأ لدى سلطات الانتداب البريطانية قبل فظائع الهولوكوست. بل إن ذاكرة المحرقة لم تصبح مهمة وأساسية في السردية الصهيونية إلى بعد حرب 1967.
يتفق تشومسكي وإيلان بابيه على تشخيص الحالة الإسرائيلية الراهنة بأنها حالة فصل عنصري على طريقة جنوب إفريقيا السابقة، رغم اختلاف السياقين في بعض التفصيلات، ويرى تشومسكي أن الولايات المتحدة الأمريكية ستضطر كما حدث مع نظام الآبارتيد إلى التخلي عن دعم الاستعمار الاستيطاني في فلسطين. ففي حالة جنوب إفريقيا، فرض الضغط الشعبي على الكونغرس وقوى المال والأعمال وقف تأييد النظام العنصري، قبل أن تلتحق السلطة التنفيذية بإجراءات المقاطعة. ذلك ما سيحدث في فلسطين حسب تشومسكي الذي راهن على الحركة المدنية والحقوقية في بلاده من أجل إسماع صوت الحق والعدل الذي بدأ يعلو في الجامعات والمجال العمومي. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن حديث تشومسكي سبق موجة التعاطف العارمة حاليًا مع الشعب الفلسطيني في المجتمع الأمريكي بعد العدوان الأخير على غزة.
ما نخلص إليه من عرض آراء تشومسكي وإيلان بابيه هو أن الصهيونية السياسية والأيديولوجية تواجه اليوم انتقادات جذرية في الخطاب الفكري الغربي، بما أصبح جليًا في أوساط النخب اليهودية نفسها التي أدركت خطر السياسات الإسرائيلية العدوانية على الشعوب اليهودية وعلى أمن العالم واستقراره .