الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

العالم العربي يتجه نحو مفترق طرق جديد، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

مر النظام الرسمي العربي منذ تأسيسه عام 1945 بمنعطفات حادة دفعته لتغيير مساره وانتهاج سياسات مختلفة عن تلك التي استقرت في مراحل سابقة، والتهيؤ بالتالي للدخول في مراحل جديدة تعين عليه أن يواجه خلالها ما قد تطرحه كل مرحلة من تحديات وأن يحاول الاستفادة مما قد تتيحه من فرص. فإذا ما أخذنا حرب 73 كنقطة انطلاق في محاولتنا لتتبع مسار النظام العربي خلال الخمسين عامًا السابقة، خصوصًا وأن هذه الحرب جسدت نقطة الذروة في المحاولات الرامية لتحقيق التضامن العربي، فسوف نجد أن هذا النظام مرّ منذ ذلك الحين بعدد من المنعطفات الحادة، يمكن إجمالها على النحو التالي:

المنعطف الأول: تسببت فيه سياسات انتهجها الرئيس المصري أنور السادات في أعقاب حرب أكتوبر 1973 وتناقضت في مجملها مع السياسات المصرية المتبعة حتى ذلك الحين، خصوصًا في الجوانب المتعلقة بإدارة الصراع مع إسرائيل. فقد قاده تفكيره إلى اتخاذ قرار بزيارة القدس عام 1977، اعتقادًا منه أن حرب 73 أسقطت نظرية الأمن الإسرائيلية، ومن ثم أقنعت قادة إسرائيل بأن استمرار احتفاظها بالأراضي العربية التي احتلتها عام 67 لن يحقق لها الأمن، وأن انسحابها من هذه الأراضي وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية هو وحده الذي يمكن يضمن لها الأمن الذي تنشده، وذلك من خلال التوصل إلى تسوية سلمية متوازنة تنهي الصراع. غير أن الأحداث اللاحقة أثبتت أن طريقة التفكير هذه لم تكن سليمة وأنها بنيت على حسابات خاطئة. فقد تعاملت إسرائيل مع زيارة السادات القدس باعتبارها دليلًا على ضعف مصر وافتقاد السادات لإرادة القتال، ومن ثم نجحت في استغلال النتائج التي ولدتها هذه الزيارة لدفع السادات نحو إبرام تسوية منفردة تخرج مصر من المعادلة العسكرية للصراع وتؤدي إلى انفراط التماسك العربي، وهو ما حدث بالفعل.

المنعطف الثاني: تسببت فيه سياسات انتهجها الرئيس العراقي صدام حسين تجاه الثورة الإسلامية في إيران، من ناحية، وتجاه الكويت، من ناحية أخرى، أفضت إلى اندلاع حرب مع إيران استمرت لثماني سنوات ثم إلى احتلال الكويت بعد ذلك وضمه إلى العراق، بنيت على افتراض أن الصراعات الداخلية التي أعقبت الثورة الإسلامية أضعفت الجيش الإيراني، ومن ثم يمكن التغلب عليه بسرعة وإزالة المخاوف والتهديدات الناجمة عن احتمالات “تصدير الثورة”. غير أن الأحداث اللاحقة أثبتت أن هذه الفرضية بنيت بدورها على حسابات خاطئة. صحيح أن العراق لم يخرج مهزومًا من المواجهة العسكرية التي اندلعت مع إيران، إلا أن النتائج التي تمخضت عنها هذه المواجهة أغرته باجتياح الكويت، متوهمًا أن بإمكانه احتلالها وضمها إلى العراق الذي يمكنه في هذه الحالة أن يصبح القوة الإقليمية الأكبر والأكثر تأثيرًا في المنطقة، ما أثار سلسلة من ردود الفعل الدولية والإقليمية انتهت ليس بتدمير العراق نفسه فحسب، خاصة عقب احتلاله من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما أيضًا وعلى وجه الخصوص بكسر إرادة الدول العربية المقاومة للمشروع الصهيوني التي أصبحت أكثر ميلًا للتطبيع مع إسرائيل، وأكثر استعدادًا لقبول شروطها للتسوية، خصوصًا عقب انعقاد مؤتمر مدريد.

المنعطف الثالث: تسببت فيه “ثورات الربيع العربي”، بموجتيها الأولى والثانية. فقد بدأت الموجة الأولى بثورة انطلقت شرارتها من تونس في ديسمبر عام 2010، ثم راحت تنتشر كالنار في الهشيم إلى أن شملت كل من مصر، واليمن، وليبيا، وسوريا والبحرين، قبل أن تتمكن القوى الداخلية والخارجية المناهضة من إخماد لهيبها تدريجيًّا. أما الموجة الثانية من هذه الثورات فقد انطلقت من السودان عام 2019، وما لبثت أن التحقت بها الجزائر والعراق ولبنان، قبل أن تتمكن القوى المناهضة لها أيضًا من إخماد لهيبها. ورغم أن جميع هذه الثورات استهدف إقامة نظم سياسية عربية أكثر ديمقراطية وعدالة وأقل استبدادًا، إلا أنه سرعان ما استولت على مفاصلها قوى داخلية وخارجية، لا علاقة لها بالديمقراطية ولا بالعدالة، راحت تتخذ منها ذريعة لتصفية حسابات قديمة والتدخل في الشئون الداخلية للدول العربية، ما ترك العالم العربي في حالة يرثى لها من الفوضى والتشرذم. فقد تولدت عن هذه الثورات سلسلة من الحروب الأهلية والصراعات الطائفية والقبلية، صبت تفاعلاتها في النهاية ليس لصالح قوى الاستبداد فحسب، وإنما أيضًا لصالح المشروع الصهيوني في المنطقة، خصوصًا بعد أن نجحت إسرائيل في الترويج لمقولة أنها لم تعد تشكل الخطر الحقيقي على أمن ومصالح الدول العربية، وأن إيران باتت تشكل خطرًا وتهديدًا مشتركًا على أمنهما ومصالحهما، ومن ثم يتعين عليهما أن يتحالفا معًا لمواجهته!!!

 

اليوم، يبدو العالم العربي مهيئًا للدخول في منعطف تاريخي جديد، وذلك لأسباب كثيرة ربما كان أهمها على الإطلاق ما طرأ من تغييرات جذرية على السياسات الداخلية والخارجية للمملكة العربية السعودية، والتي أصبحت مهيأة أكثر من غيرها لقيادة حركة التفاعلات في العالم العربي خلال المرحلة المقبلة، ولكن في اتجاه معاكس تمامًا للاتجاه الذي فرضته المنعطفات الثلاثة السابق الإشارة إليها. فمنذ بداية تولي الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد، انطلقت في المملكة عملية إصلاح سياسي داخلي واسع النطاق، يتمحور في مجمله حول الرغبة في التخلي تدريجيًّا عن الأيديولوجية الوهابية، بالتوازي مع عملية إصلاح سياسي خارجي، يتمحور في مجمله حول الرغبة في التخلي تدريجيًّا عن علاقات التبعية التي تربط المملكة بالولايات المتحدة الأمريكية، والبحث عن شركاء دوليين وإقليميين جدد لتحقيق توازن أكبر في السياسة الخارجية السعودية.

 

ولا شك في أن الاتفاق الذي رعته الصين مؤخرًا، وأفضى إلى موافقة السعودية وإيران على إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ حوالي سبع سنوات، جسد أحد أهم مظاهر هذا التغيير، والذي يتوقع أن يكون له انعكاسات إيجابية هائلة على مجمل التفاعلات الجارية في المنطقة، خاصة في العالم العربي. فبعد إبرام الاتفاق السعودي-الإيراني، بدأت العديد من الصراعات المشتعلة في العالم العربي، خاصة في اليمن وسوريا والعراق وإلى حد ما لبنان، تتجه نحو التهدئة، بل وبدأ بعضها، كالصراع على اليمن وفيه، يأخذ طريقه نحو التسوية أو الحل، ما يوحي بأن السعودية قررت على ما يبدو انتهاج سياسة خارجية جديدة تقوم على “تصفير المشاكل”، ليس مع الدول العربية فحسب ولكن مع إيران وتركيا أيضًا. وعلى إثر هذا التطور الهام، بدأت موجة الاندفاع العربي نحو التطبيع غير المشروط مع إسرائيل والمعادي لإيران تنحسر، وراحت الجهود الرامية لإعادة دمج سوريا في النظام الرسمي العربي تنشط وتؤتي ثمارها، والعلاقات المقطوعة بين منظمة “حماس” وبعض الدول العربية الرئيسية في النظام العربي، كالسعودية وسوريا تلتئم من جديد..إلخ، في مؤشرات توحي بأن الأجواء العربية أصبحت مهيئة أكثر لانعقاد قمة عربية ناجحة، بل وبأن القمة العربية القادمة المقرر انعقادها في الرياض يوم 19 مايو الحالي ربما تؤسس لانطلاق مرحلة جديدة لعمل عربي مشترك أكثر فاعلية.

 

ليس المقصود هنا إشاعة أجواء مفرطة في التفاؤل. فالولايات المتحدة وإسرائيل والقوى المرتبطة بهما في المنطقة لا تشعر بالارتياح تجاه هذه التطورات التي نعتبرها نحن إيجابية، ومن ثم يتوقع أن تبذل كل ما في استطاعتها لإفشالها وحرفها عن مسارها الطبيعي. صحيح أنني لست من المؤمنين بنظرية المؤامرة، رغم وجود المؤامرة في التاريخ، وصحيح أيضًا أنني أعتقد أن للحرب الدائرة حاليًّا بين جناحي المؤسسة العسكرية في السودان أسبابها الداخلية العميقة والمتراكمة، إلا أنني لا أستبعد مطلقًا رغم ذلك وجود أصابع خارجية تغذي هذا الصراع وتسعى لإبقائه مشتعلًا لأطول فترة ممكنة، حرصًا منها على ألا تفلت السودان من كماشة أو مصيدة التطبيع مع إسرائيل، من ناحية، ولكي ينشغل العالم العربي، من ناحية أخرى، بصراعات تحول دون نهوضه من جديد. وفي جميع الأحوال ينبغي أن يتريث قليلًا، على الأقل إلى ما بعد انعقاد قمة الرياض القادمة، لنرى ما إذا كان لدى السعودية مشروع حقيقي للنهوض العربي في المرحلة القادمة، أم أن كل ما يعنيها حاليًّا هو السعي لتأكيد قيادتها المنفردة للنظام العربي في هذه المرحلة. ولأنه ينبغي على كل من يتصدى لقيادة النظام العربي الرسمي، سواء آلت القيادة لدولة عربية واحدة أم لمجموعة دول متحالفة، أن يكون لديه مشروع عربي للنهوض، أعتقد أن السعودية، والتي تبدو مؤهلة أكثر من غيرها من الدول العربية لقيادة النظام العربي الرسمي في المرحلة الراهنة، لن تستطيع ممارسة هذه القيادة عمليًّا إلا إذا توافر لديها مشروع عربي للنهضة قابل للتطبيق على أرض الواقع، وهو البعد الذي لم تتضح معالمه بعد.

 

ليس من الضروري بل ولا ينبغي أبدًا أن يكون المشروع المأمول نسخة مكررة من المشروع القومي العربي الذي قادته مصر الناصرية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فهذا أمر غير مرغوب وغير ممكن على أي حال. الأهم أن يستفيد هذا المشروع من دروس الماضي، وأن يأخذ في اعتباره مجمل التحولات التي طرأت على العالم وعلى المنطقة أيضًا.