كثيرًا ما عُقدت المقارنات بين العالم العربي وأمريكا اللاتينية، من حيث التجربة الاستعمارية ونمط حركات التحرر، وحكم المؤسسة العسكرية انتهاء بمسارات التحول الديمقراطي.
يكاد عدد الدول العربية (22) يضاهي عدد دول أمريكا اللاتينية (24)، وتكاد تجارب الوحدة والاندماج المتعثرة في المجالين تتشابه ظاهرًا في الأساسيات.
ومع ذلك، تختلف في العمق الخلفيات التاريخية لنشأة دول أمريكا اللاتينية عن تاريخ العالم العربي المعاصر. فإذا كان الاستعمار الأوروبي في أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة الأمريكية وكندا) قام على الحركة الاستيطانية الكثيفة التي أفضت إلى نشأة أوروبا جديدة على أنقاض المجتمع الأصلي، فإن الاستعمار الإسباني والبرتغالي في أمريكا الجنوبية اتسم بنزعة تبشيرية دينية وبالاستعمار الزراعي (قصب السكر والتبغ والقهوة وغيرها).
ولقد عرفت المنطقة عدة هجرات متتالية من مرحلة تجارة الرق الإفريقي إلى موجة الهجرة الصينية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى الهجرات الأوروبية في نهاية نفس القرن وبداية القرن العشرين التي تركزت في البرازيل والأرجنتين.
تتوزع أمريكا اللاتينية إلى مجالين: دول جزر الكاريبي والدول الممتدة على طول جبال الأنديز، وتحتل أربعة بلدان هي الأرجنتين، والبرازيل، والمكسيك وفنزويلا ثلثي المساحة الإجمالية لأمريكا اللاتينية، وهي كلها دول فيدرالية متنوعة المكونات القومية والجغرافية.
وباستثناء المكسيك، لم تتأسس الدولة الحديثة في أمريكا اللاتينية من رحم حركات التحرر الوطني، بل ظهرت على شكل كيانات مستقلة في القرن التاسع عشر أسستها النخب المحلية ذات الأصول الأوروبية وفق النموذج السياسي الغربي، بما وضعها منذ البداية في حالة انفصام مع المجموعات السكانية الأصلية .
وهكذا برزت منذ استقلال الدول اللاتينية الأمريكية التناقضات الحادة بين النخب البيضاء الحاكمة والمجموعات الأصلية والمهجنة، والمكونات السوداء (30 بالمئة من سكان غويان، و10 بالمئة من سكان فنزويلا، و9 بالمئة من سكان البرازيل، في حين تصل نسبة المهجنين 70 بالمئة من سكان كوبا).
ولقد عرفت أمريكا اللاتينية حركة المد القومي الاندماجي التي ارتبطت في نهاية القرن الثامن عشر بالزعيم المعروف بالمحرر El libertador” سيمون بوليفار” (توفي في عام 1830) الذي أنشأ دولة “كولومبيا الكبرى” التي كانت تضم بالإضافة إلى كولومبيا الحالية بلادًا أخرى هي باناما، والإكوادور وفنزويلا وبعض المناطق من البيرو والبرازيل. ولم تصمد هذه الوحدة طويلًا، لكنها تركت آثارًا قوية باقية في المتخيل السياسي اللاتيني الأمريكي.
وعلى غرار الدول العربية، عرفت جل دول أمريكا الانقلابات العسكرية في ستينيات القرن الماضي، وقامت فيها أنظمة استبدادية عسكرية قاسية، قبل أن تمر بتجارب متفاوتة النجاح في الانفتاح الديمقراطي. إلا أن الظاهرة البارزة هي صعود الأنظمة اليسارية الراديكالية عبر صناديق الانتخاب في تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الجديد: هيغو شافيز في فنزويلا، ولولا دي سيلفا في البرازيل، ونستور كيرشنر في الأرجنتين، وتاباري فاسكيز في الأوروغواي وإيفو موراليس في بوليفيا.
وإذا كانت هذه الأنظمة استفادت من الديناميكيات الهوياتية الجديدة (النزعة الهندية وحركية نزع الاستعمار)، إلا أن أداءها الاقتصادي كان في الغالب سيئًا، وقد أخفقت في إحداث التغييرات المجتمعية المنشودة. وفي نهاية المطاف، نلاحظ انتكاسة التحول الديمقراطي في بلدان أمريكا اللاتينية، بما تجلى في ظواهر مقلقة مثل: تنحية الرؤساء عن طريق نزع الثقة البرلمانية (الباراغواي والبرازيل والبيرو)، والتلاعب بالانتخابات والاتهام بتزويرها (نيكاراغوا، والهندوراس، وفنزويلا وبوليفيا)، وإرغام الرؤساء المنتخبين على الاستقالة (غواتيمالا، والبيرو وبوليفيا)، واندلاع حركات العنف السياسي الأهلي (تشيلي وكولومبيا).
وفي البلدان التي نجحت نسبيًّا في عملية الانتقال الديمقراطي، نلاحظ وصول أنظمة شعبوية يمينية إلى السلطة عن طريق الانتخابات العامة، مثل نظام أوبرادور في المكسيك، وبولسنارو في البرازيل وبيكيل في السلفادور.
ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن أمريكا اللاتينية عرفت على غرار العالم العربي نزعة قومية وحدوية وحركة إصلاح ديني، إلا أن خلفيات ومآلات الحركتين كانت شديدة التباين والاختلاف.
بخصوص النزعة القومية الاندماجية، نلاحظ أنها نشأت في البداية لدى النخب البيضاء التي تبنت مشروع نابليون الثالث في إنشاء أمريكا جنوبية موحدة على أساس الثقافة اللاتينية والديانة الكاثوليكية. إلا أن هذه النزعة تشتتت إلى اتجاهات متصادمة: الاتجاه اليساري الشعبوي في طرحه لفكرة الديمقراطية التشاركية القاعدية والتحرر الوطني في مواجهة الهيمنة الغربية (الأمريكية على الأخص)، والاتجاه الهندي المدافع عن هوية وحقوق المجموعات الأصلية التي لا تزال تشكل مكونًا اجتماعيًّا قويًّا في بلدان مثل غواتيمالا والإكوادور والبيرو، وإن كانت هذه النزعة مكينة متصاعدة في دول كبرى مؤثرة مثل المكسيك .
ما نستنتج من هذه المعادلة هو الاختلاف النوعي بين التجربة الاندماجية العربية التي استندت إلى سردية قومية ثقافية وتاريخية صلبة، والتجربة اللاتينية الأمريكية التي كانت حصيلة نشاط وتأثير الحركات الاحتجاجية المتشابكة من حيث توجهاتها الحقوقية والمدنية.
أما حركة الإصلاح الديني في أمريكا اللاتينية، فقد تركزت على الاتجاه الذي عرف بلاهوت التحرر
teología de la liberación
كما برز في كتابات رجال دين، من أشهرهم غوستافو غوتريز (البيرو)، وفري بتو (البرازيل)، وجون سبرينو (سلفادور )، وخوسيه ميغل بونينو (الأرجنتين)، وإريك دوسل (المكسيك).
الأفكار الأساسية التي يتمحور حولها لاهوت التحرر هي: التأويل الاجتماعي للكتاب المقدس بحيث يكون عقيدة للخلاص الجماعي بمعنى الثورة ضد الفقر والإقصاء والتهميش، وتوظيف القيم والمفاهيم الدينية ضد الاستغلال الرأسمالي، وتحويل الكنائس إلى ركائز للنضال السياسي والاجتماعي.
يحسب للمفكر المصري الراحل حسن حنفي أن عرف بكتابات لاهوت التحرر في كتبه المنشورة في الثمانينيات، معتبرًا أنها يمكن أن تكون نموذجًا للاحتذاء في الفكر الإسلامي بعد أن تعثرت محاولات بناء علم كلام جديد وفق مشروع الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن حركة الإصلاح الديني في أمريكا اللاتينية حافظت على قنواتها المفتوحة مع التيارات التحديثية والنزعات اليسارية والحقوقية، في حين انقطعت هذه الصلة في الساحة العربية واستفحل الصراع على المرجعية الدينية في الخطاب الفكري العربي .
وهكذا نخلص إلى أن المقارنة بين تجارب النهوض والاندماج والتحديث في المجالين العربي واللاتيني الأمريكي تبين الفارق الكبير في الخلفيات والأسس والتوجهات بين المسارين، وإن كانت بعض الدروس المستفادة من النموذج اللاتيني الأمريكي تستحق الإبراز والتوضيح.