كثيرًا ما يلاحظ الباحثون أن الفكر القومي العربي تأثر في مفهومه للأمة والدولة القومية بالتجربة الألمانية التي سبقت فيها الأمة الدولة، وقامت فيها الوحدة على أساس مشروع سياسي قسري. وعادة ما يقال إن التصور القومي العربي للأمة في تركيزه على عاملي اللغة والتاريخ يقترب من التصور الألماني، في مقابل المقاربة الفرنسية التي تنظر إلى الأمة من حيث هي رابطة قانونية مدنية، واجتماعية تحتضنها وتصونها الدولة المركزية.
لهذه القراءة بعض المسوغات الوجيهة، لكنها تظل قاصرة ومحدودة في فهم النموذج الألماني في بنائه الفكري والتاريخي، الذي تشكّل وفق ثلاث محطات كبرى هي لحظة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، ولحظة التنوير في القرن الثامن عشر، واللحظة القومية في القرن التاسع عشر التي أفضت إلى قيام الدولة الموحدة سنة 1871م.
ولا يمكن الفصل بين هذه المحطات الأساسية التي نحتاج إلى الوقوف عليها في سياق مراجعتنا لتجارب النهوض والاندماج الناجحة في العالم.
ارتبطت حركة الإصلاح الديني باللاهوتي الألماني مارتن لوثر (توفي في العام 1546م) الذي نشر أطروحاته الشهيرة حول عقيدة الخلاص sala fides من منظور إنساني وتأويلي نقدي. لقد اعتبر لوثر أن الكائن الإنساني مسؤول بذاته أمام الله دون توسط المؤسسة الكنسية، وأن الخلاص هبة إلهية محضة لا دخل لرجل الدين فيها. كما أكد حق القراءة المباشرة المفتوحة للنص المقدس دون سلطة تأويلية عليا.
ومع أن بعض آراء لوثر كانت شديدة الراديكالية والتعصب، إلا أنها ساهمت بقوة في تشكل منظور أخلاقي لكرامة الإنسان، وقيم التسامح، والمساواة، والمسؤولية، وحرية الضمير والوعي.
ومن هنا الارتباط القوي بين حركية الإصلاح الديني وديناميكية التنوير، من حيث هي إعلان لاستقلالية الإنسان، ورشده وتحرره من وصاية المؤسسات الاجتماعية التي تقنّن الاعتقاد والمعايير القيمية للسلوك الفردي والاجتماعي.
لقد قامت حركة التنوير الألماني على فكرة الاستقلالية والرشد، ونظرت إلى الدولة بصفتها جهازًا عقلانيًّا تدبيريًّا للمصالح المشتركة للمجتمع، كما أنها اتسمت بأفق كوني إنساني، كما هو ظاهر في فكر أهم فلاسفة التنوير وهو أمانويل كانط. لقد ظلت مقاربة كانط متسمة بنزوع قانوني صوري صارم بحيث لا تتجاوز الأمة مفهوم الرابطة القانونية المشتركة ضمن دولة تعاقدية حرة.
ومن هنا ظهر في نهاية القرن الثامن عشر الحركة الرومانسية الألمانية Deutsche romantik رد فعل على هذا التصور القانوني المجرد للأمة والدولة، مركزًا على اعتبارات الشعور والوعي الشعبي، وروح الأمة في تعبيراتها الثقافية والجمالية التي تشكل خصوصيتها القومية. ولعل أعمال الروائي والشاعر يوهان غوته (توفي في العام 1832م)، هي أبرز تعبير عن هذا التيار، من حيث تمجيدها “للعبقرية الألمانية” وروح الشعب الألماني كما تتجسد في آدابه وفنونه.
وهكذا تشكّل الفكر القومي الألماني في إطار الموجة الثقافية والأدبية الألمانية، ومن أبرز رموزه المؤسسة الفيلسوف يوهان هردر (توفي في العام 1803م) تلميذ كانط وصديق غوته، الذي كتب أعمالًا هامة في فلسفة التاريخ، بلور فيها فكرة التقدم الإنساني خيارًا أخلاقيًّا ومجتمعيًّا يتم من داخل ثقافة وطنية هي المحدد الرئيسي لهوية الأمة. الأمة من هذا المنظور هي كتلة حية بضمير مشترك ووعي مجتمعي جماعي، وهي قاعدة بناء سياسي عضوي أقوى من الالتزامات القانونية المجردة التي بنى عليها مفكرو العقد الاجتماعي الحالة المدنية المنظمة. ومن هنا دعا هردر إلى استكمال البناء القومي الألماني من خلال سياسات ثقافية، وتربوية، وتعبيرات جمالية وفنية تؤهل الأمة الألمانية إلى قيادة الحضارة الأوروبية والإنسانية.
إن الإسهام الأساس لهردر في الفلسفة الألمانية المعاصرة هو تحديد الدولة بصفتها التعبير عن “روح الشعب” Volksgeist بما برز بقوة في فكر الفيلسوفين يوهان فيشته (توفي في العام 1814م) وهيغل (توفي في العام 1831م). كتب فيشته خطاباته الشهيرة إلى الأمة الألمانية خلال الاحتلال الفرنسي في عصر نابليون، وعرّف الشعب في هذه النصوص بقوله:
“إن الشعب هو مجموع الشعوب التي تعيش في وضع مشترك عبر العصور بطريقة مستمرة لا تغير فيها، بشكل طبيعي وأخلاقي وفق قوانين خصوصية”. إن هذه المحددات الثابتة تكمن في اللغة، والتراث الثقافي والمسلكيات الجماعية المشتركة، ولا تكتمل إلا في إطار دولة عضوية مستقلة. الدولة من هذا المنظور هي مجرد مؤسسة للأمة من حيث هي كيان حضاري عضوي.
أما هيغل -في أعمال الشباب على الأخص- فقد ركز على تصور الأمة بصفتها التعبير الروحي عن الأخلاقية الجماعية التي لا يمكن أن تتشكل موضوعيًّا إلا في صيغة الدولة. فالعلاقة جدلية وتلازمية بين الأمة والدولة، أي بين الخصوصية الثقافية المشكلة لروح الشعب، والكيان السياسي الذي يعبر عن هذه الروح في شكل مطلق متجسد تاريخيًّا.
وهكذا، انحاز فلاسفة “المثالية الألمانية” إلى مشروع توحيد الدول والكيانات الألمانية المشتتة (40 مملكة وإمارة)، التي كانت تتوزع ثلاث دول كبرى النفوذ عليها (الدنمارك، والنمسا وفرنسا). ولقد اضطلعت مملكة بروسيا بدور مركزي في هذه العملية الاندماجية التي قادها الأمير والقائد السياسي “أوتو فون بسمارك” (توفي في العام 1898م) ليكتمل توحيد الدولة الألمانية في 18 كانون الثاني/يناير 1871م.
إن هذه التجربة الألمانية اعتبرت على نطاق واسع نموذجّا للفكرة القومية العربية، على الرغم من إخفاقات وتعثر المسار السياسي الألماني في النصف الأول من القرن العشرين، حيث هيمنت النزعات القومية المتعصبة والعدوانية على الحقل السياسي، وتسببت في حربين عالميتين مدمرتين.
لقد ذهب بعض المؤرخين الأوروبيين إلى أن النموذج التحديثي التنويري الألماني الذي اتسم بعمقه الفلسفي ومساره الإصلاحي النقدي الرصين قد فشل نتيجة لكثافة مضمونه الأيديولوجي القومي الذي كان هو القوة الدافعة لنزعة وطنية توسعية تستند إلى أسطورة “التفوق الآري”، و”عبقرية” الأمة الألمانية. ومن هنا، فإن ألمانيا لم تتجاوز مأزقها السياسي إلا بالدخول في مشروع بديل هو الإقليمية الأوروبية الذي يتناقض بالكامل مع فكرة التفوق الألماني.
يحتاج العرب إلى التفكير المعمّق في التجربة الألمانية في القرون الثلاثة الأخيرة في مسارات الإصلاح الديني، والتنوير الإنساني والبناء القومي بدل الاكتفاء بالتنويه بالنموذج التوحيدي الذي تم “بالحديد والدم” حسب عبارة بسمارك الشهيرة. أي بعبارة أخرى، ما يحتاج إليه مشروع النهوض العربي هو بناء الطموح القومي على مقومات الإصلاح الديني والتنوير العقلاني لحماية الفكرة القومية من نقاط ضعف وتعثر التجربة الألمانية.