عندما اندلعت موجة الربيع العربي في بداية 2011، تركز الاهتمام بتجارب الانتقال السياسي الناجحة في العالم. ولقد كان من الطبيعي أن تنال التجربة الإسبانية اهتمامًا واسعًا لعدة أسباب، من بينها أساسًا أنها تقدم نموذجًا قابلًا للاستلهام في التحول من الديكتاتورية العسكرية والأحادية الحزبية إلى الديمقراطية التعددية القائمة على الانتخاب الحر. ولا نحتاج إلى ذكر العلاقات الخاصة تاريخيًّا بين العالم العربي وإسبانيا التي تنتمي مناطق واسعة منها إلى إقليم الأندلس الذي حكمه العرب والمسلمون ثمانية قرون متصلة.
لا يزال التاريخ الإسباني المعاصر غير معروف بالتفاصيل للجمهور العربي، منذ وصول الجنرال فرانكو للسلطة بعد نهاية الحرب الأهلية التي استمرت من سنة 1936 إلى سنة 1939. ولقد كرس فرانكو لمدة أربعين سنة نظام حكم استبدادي متأثرًا بالأيديولوجيا الفاشستية، فقمع الأحزاب السياسية، وشرّد المعارضين ومنع حرية الرأي والتفكير، وفرض هيمنة حزبه الوحيد “الحركة الوطنية”Le Movimiento Nacional .
لا يختلف هذا المشهد كثيرًا عن العديد من الأنظمة العسكرية العربية التي حكمت بالحزب الواحد وفرضت حالة الاستبداد السياسي.
توفي فرانكو يوم 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1975، وخلفه بعد يومين من موته الملك خوان كارلوس الذي أوصى له بالحكم منذ سنة 1969. ولقد بدا من الواضح منذ رحيل فرانكو أن البلاد مقبلة على تحول سياسي جذري.
وهكذا برز اتجاهان، ذهب أحدهما إلى ضرورة استخدام اللحظة القائمة للعودة إلى المعارضة المسلحة لفرض التغيير الراديكالي وهو الرأي الذي تبنته العديد من القوى اليسارية التي لم تطرح السلاح عمليًّا مع هزيمتها في نهاية الثلاثينيات، في حين ذهب الاتجاه الآخر إلى ضرورة الحوار والتفاوض من أجل عملية انتقال سياسي سلسلة وتوافقية.
لقد انتصر الموقف الثاني الذي يدعمه الملك الشاب، فعين على رأس الحكومة أحد رجالات العهد السابق المعتدلين هو ” أدولفو سواريس” الذي حكم البلاد طيلة ثلاث سنوات من خلال فريق ضم بعض سياسي حقبة فرانكو وبعض الشخصيات الليبرالية المستقلة الأخرى.
وقد قادت حكومة سواريس المرحلة الانتقالية، فأصدرت منذ أيار/مايو 1976 القوانين المنظمة للحريات السياسية وبدأت منذ تموز/يوليو من السنة نفسها الترخيص للأحزاب السياسية مع إعلان عفو عام عن كل السجناء السياسيين والمنفيين في الخارج. وفي منتصف سنة 1977، صدرت القوانين المنظمة للعمل النقابي ورخص للنقابات المهنية والعمالية، كما انتخب المواطنون لجنة تأسيسية مكلفة بكتابة أول دستور ديمقراطي للبلاد مثلت فيها كل مكونات الطيف السياسي.
وفي 10 تشرين الأول/أكتوبر 1978، صادق البرلمان على الدستور الجديد الذي يكرس النظام الملكي البرلماني ويمنح الحكم الذاتي للأقاليم، وفي نهاية السنة ذاتها نُظم استفتاء عام على الدستور الذي نال إجماعًا وطنيًّا شاملًا.
ومع أن إسبانيا شهدت في 23 شباط/فبراير 1981، محاولة انقلابية فاشلة لكبح عملية الانتقال السياسي، إلا أن تصميم الملك الشاب ونشاط القوى السياسية والمدنية أفشلا هذه المحاولة، وعادت البلاد إلى مسار التحول الديمقراطي الذي أفضى إلى انتصار الحزب الاشتراكي بقيادة فيليب غونزاليس في الانتخابات التشريعية المنظمة في تشرين الأول/أكتوبر 1982.
وهكذا نجحت إسبانيا في مسار التحول الديمقراطي نجاحًا باهرًا، أهلّها في سنة 1986 أن تنضم إلى السوق الأوروبية المشتركة، وتصبح أحد أهم البلدان الديمقراطية الغربية.
كتب الكثير عن النموذج الإسباني في الانتقال الديمقراطي الذي تم وفق صيغة” القطيعة التوافقية” Ruptura pactada حسب العبارة الرائجة. ولقد تمثلت هذه الصيغة في التغيير التوافقي والسلمي والمتدرج، من خلال إشراك مختلف الفرقاء السياسيين بما فيهم شخصيات العهد الفرانكوي، مع التخلي عن نهج الملاحقة والمتابعة ومحاكمة الماضي، حفظًا للاستقرار السياسي والسلم الأهلي في بلاد ذاقت ويلات ومصائب الحرب الأهلية الطويلة.
كان من مقتضيات هذه العملية التوافقية ما سمي بـ”صفقة النسيان”، أي إقرار العفو الشامل عن كل السجناء والمنفيين من معارضي نظام فرانكو مقابل العفو عن مسؤولي النظام السابق وعدم ملاحقتهم.
من بين سلبيات هذه الصفقة حسب ما يرى البعض أن إسبانيا لم تتخلص كليًّا من أشباح اليمين الفاشستي المتطرف كما وقع في ألمانيا وإيطاليا، ولذا فإن تأسيس حزب “فوكس” سنة 2013 كتيار مدافع عن عهد فرانكو هو الدليل على خطورة هذا المسلك التوافقي الإجماعي.
بيد أنه مما لا شك فيه أن إسبانيا نجحت في بناء تجربة ديمقراطية صلبة ومستقرة دون دفع ثمن التحول الراديكالي المحفوف بالمخاطر، ومن ثم ظهرت نجاعة خيار التوافق والمصالحة الشاملة.
منذ تسعينيات القرن الماضي، طرح المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري الخيار الإسباني نموذجًا للتحول السياسي التوافقي في العالم العربي، وفق ما أطلق عليه “الكتلة التاريخية” التي تجمع بين العناصر المتنورة في الأنظمة الحاكمة والقوى الإصلاحية والتغييرية المعارضة، من أجل بناء مسار ديمقراطي متدرج وواقعي.
ولا شك في أن ما سمي بالتناوب التوافقي في المغرب (الحكومة الائتلافية التي قادها زعيم المعارضة الاشتراكية عبد الرحمن اليوسفي منذ شباط/فبراير 1998 إلى 9 تشرين الأول/أكتوبر 2002) هي أول محاولة عربية لاستلهام النموذج الإسباني في بلد جار وقريب لإسبانيا.
بعد حركة الربيع العربي، طرح المسلك الإسباني خيارًا للمسار الانتقالي في البلاد العربية، ولعل التجربة التونسية بعد سقوط بن علي في كانون الثاني/يناير 2011 كانت أقرب تجارب الانتقال السياسي العربية إلى النموذج الإسباني من حيث المنهج والآليات والمراحل.
بيد أن الفرق الأساسي بين النموذج الإسباني وتجارب الانتقال الديمقراطي في العالم العربي يتركز في ثلاثة عناصر أساسية هي: توفر مقومات البناء الاقتصادي والبيروقراطي للتحول السياسي من مؤسسات عمومية وقاعدة صناعية وتنموية، ودعم المؤسسة العسكرية لعملية التغيير السياسي وحيادها تجاه القوى المتنافسة، واحتضان البيئة الإقليمية أي أوروبا الغربية الديمقراطية.
لم تتوفر هذه العناصر لتجارب التحول الديمقراطي العربية التي غرقت في مصاعب ومطبات كثيرة سنعود لتناولها لاحقًا.