الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

العرب وتجربة النهضة الإيطالية بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس أمناء منظمة النهضة (أرض)

مشاركة

ظهرت مقولة “النهضة” في الأدبيات الإصلاحية العربية في القرن التاسع عشر، بتأثير واضح من النهضة الأوروبية التي بدأت من إيطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر.

لا تتوفر للفكر العربي معلومات ولا تصورات دقيقة عن النهضة الإيطالية، وما تلاها من مشروع قومي اندماجي في سياق حركية التنوير، على الرغم من نقاط التشابه الكبير بين الأوضاع الإيطالية قبل الوحدة ووضع الأمة العربية.

ارتبط مسار النهضة الإيطالية بانهيار الإمبراطورية الرومانية الجرمانية وقيام المدن المستقلة في شبه الجزيرة الإيطالية، بداية من مدينة فلورنسا التجارية ثم روما، وميلانو والبندقية.

لقد ارتبط هذا التحول بسقوط القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية عام 1453م تحت أقدام العثمانيين، وما أدى إليه هذا الحدث الهام من هجرات علمية وبشرية واسعة إلى المدن الإيطالية التي أصبحت مراكز اقتصادية نشطة تحكمها أنظمة نابعة من السكان.

وعلى المستوى الفكري، تبلورت النزعة الإنسانية في دلالاتها القوية، وعمّت أوروبا بكاملها، ومن أبرز رموزها الفيلسوف الإيطالي “بيك دي لا ميراندول” (توفي في عام 1494م)، الذي ألّف “رسالة حول الكرامة الإنسانية”، جمع فيها بين أبرز قيم ومكاسب الفكر الإنساني الوسيط، مركزًّا على الشروح والتأويلات العربية للنصوص الفلسفية اليونانية. ما يظهر من أعمال لا ميراندول التي حاربتها الكنيسة هو الدفاع المبكر عن حرية الفكر، والنزعة التاريخية النقدية والإيمان القوي بفاعلية الإنسان وقدرته على الخروج من أفق الطبيعة الضيق.

لقد بقيت هذه الأفكار غائمة وملتبسة، لكنها أثرت على تقليد فكري كامل ينتمي إليه ثلاثة مفكرين أوروبيين بارزين، وهم: الإيطالي “نيكولا ماكيافيلي” (توفي في عام 1527م)، والإنجليزي “توماس مور” (توفي في عام 1535م)، والفرنسي “جان بودين” (توفي في العام 1596م).

لقد بلور ماكيافيلي التصور السياسي الديناميكي للدولة الحديثة من حيث ارتكازها على فكرة “منطق ومصلحة السلطة العمومية”، في مقابل التصورات الأخلاقية والدينية للسياسة من حيث هي تكريس للفضيلة المدنية.

أما توماس مور، فقد دافع في مقاربته الطوبائية عن قيم التسامح، والحرية، والسلم المدني من منظور تأويلي ديني يتعارض مع المعتقدات اللاهوتية الوسيطة.

أما جان بودين، فقد بلور في كتابه “الجمهورية”، المفهوم الحديث لسيادة الدولة من حيث هي مطلقة وشاملة وغير قابلة للتنازل، بما يجعل منه رائد الفكر السياسي الحديث.

ما يجمع بين هؤلاء المفكرين هو القراءة الجديدة للتراث السياسي اليوناني وفق مقاربة توفيقية عامة بين أفلاطون وأرسطو، وللتراث القانوني الروماني منظورًا إليه من زاوية الحقائق السياسية الحديثة.

ومع أن المؤسسة الدينية الإيطالية قادت الثورة المضادة لحركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، إلا أن ديناميكية النهضة Rinascimento  كان لها تأثير واضح في النظرة الإنسانية التاريخية للنص الديني المسيحي.

مع القرن التاسع عشر ظهرت مشاريع التنوير القومي في إيطاليا، التي وضعت على رأس أولوياتها توحيد الأمة الإيطالية في كيان سياسي جامع.

لقد كانت إيطاليا مقسمة أوانها إلى ثمانِ دول هي:

·        مملكة سيسيليا (صقلية) في الجنوب، التي كانت دولة ريفية فقيرة وعصية على أفكار التقدم والحرية.

·        الدول التابعة لسلطة البابا في وسط إيطاليا.

·        دوقيات توسكانا، ومودينا وبادوفا الصغيرة.

·        مملكة لومباردي وفينيتو تحت الوصاية النمساوية.

·        مملكة سردينيا، التي اضطلعت بدور هام في توحيد الدولة الإيطالية.

في القرن التاسع عشر، ظهرت حركة نهضوية تنويرية ذات نفس قومي، أُطلق عليها في الأدبيات المحلية مقولةRisorgimento  (أي التجدّد). هدفها الأساس هو توحيد الأمة الإيطالية في دولة قومية جامعة.

ولقد ظهرت عدة مقاربات مختلفة لمفهوم الأمة: التصور الكاثوليكي المتمحور حول الرابطة المسيحية تحت وصاية البابا، والتصور العلماني المستند إلى مركزية إقليم سافويا ومملكة البيمونت في بناء كيان قومي إيطالي غير ثيوقراطي، والتصور الفيدرالي الثوري المندرج في نطاق الإقليمية الأوروبية.

نلمس هنا تصورين متصادمين للأمة على غرار الأفكار القومية الأوروبية: مسار إنساني كوني ينطلق من قيم التنوير والنزعة الكوسمبولوتية العالمية، وتصور ثقافي عرقي ضيق يحصر الأمة في اعتبارات اللغة والتاريخ المحلي.

ولا شك في أن أبرز مفكري حركة التجديد الإيطالية هما كاميلو كافور (توفي في العام 1862م) وغوزيبي مازيني (توفي في العام 1872م).

يمثل كافور التيار الليبرالي الإصلاحي المستقل عن الكنيسة والمدافع عن تصور قومي ثقافي للأمة الموحدة على أساس وعي اندماجي يتجاوز البنيات الطبقية، والمصالح الاقتصادية والصراعات الاجتماعية. ولهذا الغرض، دعم مشروع مملكة سردينيا في توحيد إيطاليا بالقوة من خلال التعاون مع فرنسا، وأصبح رئيس حكومة إيطاليا المتحدة قبل موته بفترة قصيرة.

أما مازيني، فيمثل التيار الثوري الجمهوري. وقد قاد حركات تمرد وانشقاق ضد حكام الدول الإيطالية الصغيرة سعيًا لتجسيد الوحدة القومية المنشودة، ضمن منظور تاريخي رومانسي للأمة بصفتها التجسيد لإرادة الله في الواقع المعيش حسب معايير التقدم والعدالة الاجتماعية كما في كتابه “الإيمان والتاريخ” (الصادر سنة 1835م).

اكتملت وحدة إيطاليا عام 1870م بعد ضم روما للكيان القومي الجديد الذي تشكل بفضل التناغم بين المشروع السياسي لدولة سردينيا وفكر التجديد القومي الذي انتشر على نطاق واسع في الساحة الثقافية الأيديولوجية.

إن تجربة النهضة الإيطالية في بعديها الحداثي التجديدي والقومي الاندماجي، تستوقف مشروع النهوض العربي الذي تبنى نفس الهدفين من إصلاح فكري واجتماعي، وبناء سياسي على أساس توحيد الأمة في كيان سياسي مندمج.

في الحالة الإيطالية، كما في الحالة العربية، قامت الأمة قبل الدولة، وإن نجحت تجربة الوحدة القومية التي لم تنجح في العالم العربي.

قد يذهب البعض إلى أن سر نجاح التجربة الإيطالية هو الدور الذي أدته دولة سردينيا من حيث هي إقليم مركزي قاد عملية التوحيد القسري في إطار المعادلة الإقليمية الأوروبية التي كانت في مصلحة المشروع الاندماجي الإيطالي، إلا أنه لا يمكن إهمال تأثير الحركة الفكرية التنويرية الممتدة من النزعة الإنسانية النهضوية في القرن الرابع عشر، إلى حركية التنوير والتجديد الحديثة.

ما تريد أن نخلص إليه، هو أن المشروع القومي الإيطالي استوعب بقوة وعمق ديناميكية التجديد الفكري والتنوير الإنساني بما عزّز القاعدة المرجعية للنهوض والاندماج الاجتماعي، في الوقت الذي انفصمت حركية البناء القومي مع مشاريع التنوير والتحديث في الساحة العربية، وانتهت إلى نمط من الاستبدادية الفردية الفاقدة لكل نفس ليبرالي أو إنساني كوني.