بعد مرور سنة ونصف على حرب أوكرانيا الحالية التي لا تزال مشتعلة وعصية على الحل، يظل السؤال مطروحًا حول شرعيتها القانونية والأخلاقية.
في هذه الحرب نلمس الصدام بين شرعيتين: شرعية السيادة الوطنية وحق الدفاع عن الأرض والوطن في مواجهة الاحتلال والأطماع التوسعية الخارجية (الموقف الأوكراني المدعوم غربيًّا)، وشرعية الدفاع عن الحقوق القومية والأمن الاستراتيجي مقابل توسع حلف الناتو والتهديد الغربي الذي هو نمط من الحرب الاستباقية والحصار الخارجي (الموقف الروسي).
خلف هذا الصدام المعياري، نلمس الجدل النظري القانوني المعقد المتعلق بالحرب في السياق الدولي الراهن. لقد بدأ هذا الجدل بقوة مع حرب العراق سنة 2003 التي تمت خارج المظلة الأممية، واستندت إدارة الرئيس جورج بوش الابن فيها إلى مفهوم “الحرب العادلة” من منظور واجب “تحرير الشعب العراقي من الاستبداد ونشر الديمقراطية والحرية”.
لهذا المفهوم جذور لاهوتية قديمة، في أعمال القديس أوغسطين وتوماس الإكويني. الحرب العادلة من هذا المنظور لها شروط أساسية تتلخص في المحددات التالية: السلطة الشرعية للحاكم المسيطر على الأرض والسكان والمتمتع بقبول وإذعان الرعية، وعدالة القضية أخلاقيًّا بحيث لا تجوز إلا لمعاقبة مخطئ أو إصلاح ضرر محقق، وصلاح النية وصواب المقصد والهدف.
ومن المعروف أن الفكر السياسي الحديث تخلى عن هذا المفهوم اللاهوتي الذي يلتبس بالحروب الدينية المقدسة، بما بدأ بوضوح منذ ” هيغو غروتيوس” في القرن السابع عشر. في كتابه ” قانون الحرب و السلم”، يذهب غروتيوس إلى ضرورة بلورة نظام قانوني للحرب بين دول مستقلة وسيادية، بما يعني إقصاء المعايير المطلقة والمقدسة في شرعية الحرب والأخذ بالضوابط الإجرائية التوافقية.
وهكذا أصبح موضوع ” السلم الدائم” محورًا ثابتًا في الفكر الفلسفي الأوروبي في القرن الثامن عشر، بما نلمسه خصوصًا لدى كانط وروسو.
أما كانط فقد اعتبر أن الحرب لا يمكن أن تكون حالة قانونية شرعية، ما دام القانون هو التعبير عن الأخلاقية العمومية التي تقتضي الخروج من ” حالة الطبيعة” بما هي حالة فتنة واقتتال دائم. وما دامت الشرعية المدنية محصورة بالمجال السيادي للدولة، فإن الحرب بين الأمم والدول لا يمكن أن تضبط شرعيًّا ولا قانونيًا. ومن هنا فكر كانط في بناء هدف السلم الدائم بين الأمم على أساس نمط جديد من القانون سماه بالكوسمبولوتي (أي الكوني)، وهو قانون يتجسد في القيم الكونية للضيافة والتضامن بين بني البشر.
أما روسو فقد اعتبر أن الحرب ليست حالة طبيعية ما قبل سياسية، بل هي من صلب الحالة المدنية ومن نتائجها، ومن ثم صعوبة التغلب عليها في سياق تطبعه سيادة الدولة واستقلاليتها. ومن ثم يكون من المستحيل بناء شرعية الحرب على أساس القانون الطبيعي أو القانون المدني، وإن كانت واقعًا عنيدًا لا بد من مراعاته والتعامل معه.
ما نستخلصه من الأفكار الفلسفية الحديثة حول الحرب، هو أنها خرجت نهائيًّا من التحديدات المعيارية القانونية، انسجامًا مع ديناميكية بناء الدولة الليبرالية الحديثة المؤسسة على الشرعية القانونية.
بيد أنما لاحظه الفيلسوف القانوني كارل شميت هو أن هذا التصور القانوني للدولة المدنية التعاقدية يصطدم مع تبنيها لمقولة ” السيادة” التي تعني الحكم الاستثنائي، بمعنى أنها تتنافى مع التأسيس القانوني الوضعي للإرادة العمومية. وهكذا يخلص شميت إلى أن اختزال الدولة في أبعادها القانونية يلغي عمليًّا طبيعتها السياسية، ما دامت السياسة تقوم على ثنائية الصديق والعدو، وبالتالي تلازم الحرب والسياسة.
والواقع أن شميت في هذه المقاربة يتحدث عن أحد وجهي ما سماه بول ريكور بمفارقة السياسة في جمعها بين العقلانية القانونية في ترتيب الحالة الجماعية المندمجة والعنف الذي يظل خيارًا وأفقًا دائمًا في أي وضعية سياسية.
وإذا كان كانط توهم أن الدولة الليبرالية التي يحكمها القانون المدني الجمهوري لا تشن حروبًا عدوانية، فإن الحقيقة التاريخية الماثلة للعيان هي أن أخطر الحروب وأكثرها تدميرًا تمت بين دول ليبرالية تحكمها قوانين ونظم مدنية شرعية.
وبالرجوع إلى الحرب الأوكرانية الراهنة، يتبين أن العودة إلى مفهوم ” الحرب العادلة” الذي انبثق مجددًا في التسعينيات مع الحروب البلقانية أصبحت بارزة وملموسة. ومع أن القانون الدولي الذي تستند إليه المؤسسات العالمية المشتركة يقوم على مبدأ سيادة الدول شرطًا لاستمرار السلم بين الأمم، إلا أنه يتعايش ضمنيًّا مع فكرة ” التدخل الإلزامي لحماية حقوق الإنسان” التي غدت لها في السنوات الأخيرة بنيتها القانونية الممثلة في المحكمة الجنائية الدولية ومبدأ الاختصاص الكوني في ملاحقة الجرائم الإنسانية.
عندما استخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شعار ” تحرير أوكرانيا من النازية الجديدة” في تسويغه للحرب الدائرة حاليًّا، كان يكرر في الحقيقة نفس العبارات التي استخدمها الزعماء الغربيون في تدخلهم في البلقان وفي أفغانستان والعراق وليبيا، بما يشكل نمطًا من العودة إلى المفهوم اللاهوتي القديم للحرب العادلة.
في كتابه الصادر بالإنجليزية بعنوان ” الحروب العادلة والحروب غير العادلة” (Just and Unjust Wars) يعيد الفيلسوف الأمريكي مايكل فالزر الاعتبار لمفهوم الحرب العادلة من منظور الأخلاق الإنسانية الكونية التي تختلف عن الإجراءات القانونية الدولية التي تكون أحيانًا متناقضة مع المعايير القيمية المطلقة التي لا بد من اعتمادها مخرجًا من الحالة النسبية التي هي حالة عنف ورفض متبادل.
بيد أن هذا التصور الأخلاقي يصطدم بواقع التعددية القيمية والمعيارية التي تسم المجتمعات الحديثة، بما يعني أن الأفق الأخلاقي الكوني لا يمكن أن يكون ضامنًا للسلم والأمن بين الشعوب والأمم ما دام ليس من المتاح الوصول إلى توافقات إلزامية في المعتقدات الجوهرية، والخيار الوحيد الممكن هو الفهم التواصلي النقدي لحوار تفاعلي بين البشر ينشد الكونية وإن ظل بالضرورة محدودًا ومؤقتًا. ومن هنا يظهر أن تشريع الحرب من منطلقات أخلاقية ممتنع، ويظل التصور الدفاعي والتحرري للحرب هو الخيار الأوحد الممكن وفق الموازين القانونية الدولية النافذة.