الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الفكر العربي وأزمة الإبداع، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

لم تبق نزعة فلسفية أو فكرية غربية لم تدخل الثقافة العربية وتجد من يتبناها ويدافع عنها ويتحمس لها. من بين المفكرين العرب من تبنى الشخصانية ومنهم من تحمس للوجودية وحاول نشرها على أوسع نطاق، ومنهم من تبنى الماركسية بمختلف أصنافها ومنهم من اعتمد الوضعية منهجًا وطريقة في التفكير، ولا يزال البعض حاليًا يبشر بأدبيات ما بعد الحداثة والتفكيك.
لا مشكل في هذا التأثر فالفكر الإنساني ملك للجميع، والأفكار تنتقل من ثقافة إلى أخرى دون عوائق، لكن السؤال الذي لا بد من طرحه هو: هل ساهم المفكرون العرب في تجديد المنظومات التي تبنوها وما هي مظاهر الإبداع في كتاباتهم بهذا الخصوص؟

سأقف هنا عند ثلاثة نماذج أساسية تتعلق بالوجودية، والماركسية والتفكيكية، وهي النزعات الأكثر تأثيرًا في الفكر العربي المعاصر.

أما الوجودية فقد سادت على نطاق واسع في الخمسينيات والستينيات، واشتهر في هذا الباب الفيلسوف المصري المعروف عبد الرحمن بدوي الذي كتب رسالته للدكتوراه عام 1944 بعنوان “الزمان الوجودي” وفيها محاولة جريئة للتفكير في إشكالات الزمن والعدم والحرية من منظور فلسفي جديد غير مألوف في الساحة العربية. ويحسب لبدوي أن نظريته في العدم والفاعلية الإيجابية سبقت كتاب جان بول سارتر الشهير “الوجود والعدم” الذي صدر سنة 1943 ولا شك أنه لم يطلع عليه وقتها وقد هاجمه لاحقًا واعتبر أن سارتر أفسد الفلسفة الوجودية وخلطها بالماركسية التي كان بدوي شديد النفور منها.

لكن بدوي الذي استلهم في كتابه أفكار الفيلسوف الألماني المعروف مارتن هايدغر في كتابه “الوجود والزمان” الصادر سنة 1927، تأثر بالقراءات الأولى لفلسفة هايدغر التي ذهبت في اتجاه النزعة الإنسانية، في حين أن هايدغر نفسه بين في كتاباته اللاحقة خطّأ هذه المقاربة، مركزًا على محورية المسألة الأنطولوجية في تفكيره حيث لا يعني مفهوم “الدمازين” الوجود الإنساني بل انفتاح الكينونة على تجربة الإنسان تأويلًا وتساؤلًا.

ليس من المستغرب أن يعدل بدوي عن مشروعه في بناء فلسفة وجودية عربية، ويكتفي بالكتابة عن “الشخصيات القلقة” في التاريخ العربي الإسلامي، باحثًا في الأدبيات الصوفية عن مظاهر هذا القلق المبدع، وهو هنا على خط سارتر الذي انتقد وليس خط هايدغر الذي مجده وتبناه.

والواقع أن الهايدغربة العربية الحقيقية برزت متأخرة في الساحة الفكرية العربية، وذهبت في منحى بعيد عن الوجودية، كما نلمس في كتابات محمد محجوب، وفتحي المسكيني، وعبد السلام بنعبد العالي وعلي حرب، وغيرهم.
أما الوجودية بالمعنى السارتري فكان أثرها أساسًا في الكتابات الأدبية الإبداعية لدى محمود المسعدي في تونس ويوسف إدريس في لبنان.
أذكر هنا على سبيل الاستطراد النقاش الثري الذي وقع بين طه حسين والكاتب التونسي المعروف محمود المسعدي بعد صدور مسرحية “السد” التي اعتبرها طه حسين عملًا وجوديًا رائعًا على غرار “أسطورة سيزيف” لألبير كامو، منوهًا على سبيل الاستهزاء بأسلمة الوجودية على يد المسعدي، بعد أن كانت تنصرت على يد غابريال مارسل وألحدت على يد سارتر.
وخلاصة الأمر، أن لمسة الإبداع الحقيقية في الوجودية العربية تمت في الكتابات الإبداعية الأدبية، وليس في الجانب الفلسفي أو الفكري.

أما الماركسية التي سيطرت على الفكر العربي في الستينيات والسبعينيات، فقد هيمنت عليها النسخة الأيديولوجية اللينينية-الستالينية أو الماوية التي اعتمدتها التنظيمات الحزبية اليسارية على نطاق واسع. وباستثناء نظرية التطور اللامتكافئ في الاقتصاد التي جدد بها سمير أمين الأطروحة الماركسية من منطلق نقدي للمركزية الغربية ودفاع عن الأطراف مقابل المركز، ونظرية الماركسية الموضوعية لدى عبد الله العروي في مقاربته الليبرالية التاريخانية لحاجيات المجتمع العربي، فإن عموم الكتابات الماركسية كانت مجرد تكرار هزيل للنسخة الأيديولوجية السائدة من الماركسية، إلى حد أن المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري انتقد الماركسيين العرب بأنهم يستخدمون المنهج المادي التاريخي منهجًا مطبقًا وليس منهجًا للتطبيق.

لقد غابت عن الكتابات العربية جهود الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت في إعادة بناء النظرة الماركسية، كما هو جلي في أعمال أدورنو وهوركايمر، كما غابت عنها المدرسة الإيطالية التي يمثلها أنطونيو غرامشي، وقراءة لويس التوسير الجديدة لرأسمال ماركس في بداية الستينيات. وما يزال المشروع الفلسفي الماركسي الجديد لدى توني نغري ومايكل هاردت في ثلاثيتهما (الإمبراطورية، والجمهور والكومونولث) محدود الأثر والتأثير في الفكر العربي.

أما النزعة التفكيكية، فقد برزت مبكرًا في الدراسات اللغوية والنقدية في إطار الولع الكبير بالمنهج البنيوي اللساني، كما هو ظاهر في كتابات عبد السلام المسدي، وعبد الله الغذامي وصلاح فضل. إلا أن هذه الكتابات ركزت أساسًا على الجوانب الشكلانية، والنسقية والدلالية في قراءة النص، على حساب المقاربة الفلسفية للمعنى والمفاهيم التي تبلورت منذ الستينيات في أعمال ميشال فوكو، وجاك دريدا وريتشارد رورتي. لم يعرف الفكر العربي هذه الاتجاهات الفلسفية إلا في السنوات الأخيرة في سياق يغلب عليه منحى الترجمة، والعرض والتخليص.

ومع أن البعض تحمس كثيرًا لهذه الأفكار وبنى عليها طموحات وانتظارات أيديولوجية وسياسية لم تكن لها في الأصل، إلا أن السؤال الذي ظل مطروحًا بقوة هو: هل يحتاج المجتمع العربي الذي لا تزال تسيطر عليه البنيات العصبية والعشائرية، وتضعف فيه الدولة المركزية القوية وتنعدم فيه مقاييس الفردية الذاتية إلى تفكيك بنياته المؤسسية الرخوة ونقد مساره التنويري الليبرالي الهش على غرار ما حدث في الدول الصناعية الغربية المتقدمة التي تعيش إشكالات التقدم والتحديث التي لا نعرفها ولا نعيشها في واقعنا الموضوعي؟
وخلاصة الأمر، أن الفكر العربي وإن سعى جاهدًا إلى متابعة الفكر الإنساني والتفاعل الإيجابي معه، إلا أن لمسة الإبداع والتجديد فيه كانت محدودة وهشة، وذلك هو المظهر الأكبر لأزمة الثقافة العربية المعاصرة.