في 17 تشرين الثاني/نوفمبر، احتفل الوسط الفلسفي العربي على غرار مختلف بلدان العالم باليوم الدولي للفلسفة الذي أقرته منظمة اليونسكو.
وإذا كانت الفلسفة شكّلت محور الفكر التنويري والحداثي الأوروبي، فإن دورها كان هامشيًّا محدودًا في تشكل وتطور مشروع النهوض العربي.
صحيح أن الجيل الأول من الإصلاحيين العرب والمسلمين اطلع على بعض النصوص المرجعية الأساسية في الفلسفة الحديثة وبصفة خاصة فلسفات العقد الاجتماعي، مثل ترجمة رفاعة الطهطاوي لكتابي “روح القوانين” لمونتسكيو و”العقد الاجتماعي” لجان جاك روسو، إلا أن هذه الترجمات لم تؤثر تأثيرًا ملموسًا في الحركة الثقافية العربية.
لقد كان المفكر الهندي محمد إقبال استثناء من جيل الإصلاحيين الأوائل من حيث كونه استوعب فلسفة عصره وكان مبدعًا في التفكير الفلسفي، بيد أن تأثيره كان ضئيلًا في الفكر العربي في مقابل التأثير الواسع لمفكر هندي (باكستاني) آخر هو أبو الأعلى المودودي أحد رموز الإسلام السياسي السني وواضع نظرية “الحاكمية” الشهيرة.
لقد عمل تلامذة الإمام محمد عبده وبصفة خاصة مصطفى عبد الرازق وأحمد أمين على تدشين المدرسة الفلسفية العربية الحديثة من خلال الكتابة حول تاريخ الفلسفة الإسلامية بدمج علم الكلام وأصول الفقه والآداب الأخلاقية، وكان من أهم نتائج هذه المدرسة تطوير نهج العقلانية النقدية في قراءة الموروث الإسلامي، انسياقًا مع نظرية محمد عبده نفسه في علم الكلام الجديد التي بلورها في كتابه “رسالة التوحيد”. بيد أن بدايات الفلسفة العربية الإسلامية الحديثة انحصرت في إعادة الاعتبار لعقيدة خلق الأفعال والتحسين العقلي لدى المعتزلة وأطروحة “مقاصد الشريعة” في نسختها الشاطبية، وعلم العمران الخلدوني منظورًا إليه بصفته أصل علم الاجتماع الحديث.
ومع أن بعض الكتاب من بلاد الشام ومصر بثوا في النشريات السيارة في نهاية النصف الأول من القرن العشرين أفكار التطورية الداروينية والوضعية العلموية على نطاق واسع، ممهدين لبروز تيار علماني تاريخاني في الفكر العربي (سلامة موسى، وشبلي شميل وطه حسين، وغيرهم)، إلا أن الأمر لا يتعلق بإنتاج فلسفي حقيقي بل مجرد كتابات جريئة لها صداها الواسع في الساحة الثقافية العامة.
كما أن بعض صناع الأيديولوجيا العربية المعاصرة اطلعوا على الفلسفات الحديثة، وفي مقدمتهم مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي ميشال عفلق تلميذ الفيلسوف الفرنسي الكبير هنري برغسون، إلا أن إسهامهم في الإنتاج الفلسفي الرصين كان ضعيفًا.
في خمسينيات القرن الماضي، تحسن نوعيًّا الإنتاج الفلسفي العربي وظهرت المدارس الفلسفية المعروفة مثل وجودية عبد الرحمن بدوي، وجوانية عثمان أمين، وشخصانية عزيز الحبابي ووضعية زكي نجيب محمود. ودون التقليل من أهمية إنتاج هذا الجيل المؤسس، إلا أن إسهاماتهم لم تتعد في الغالب تقديم نسخ عربية محلية من الاتجاهات الفلسفية العالمية المعروفة.
دخل العديد من الفلاسفة العرب منذ نهاية السبعينيات حقل الدراسات التراثية، بداية من طيب تزيني ثم محمد عابد الجابري، وحسن حنفي وطه عبد الرحمن، وغيرهم. وكان من الواضح أنهم اعتبروا -على اختلاف مناحي تفكيرهم وتباين مناهجهم- أن مسلك الإبداع الفلسفي العربي يقتضي قراءة النصوص المرجعية في التقليد الإسلامي الوسيط من منظور المقاربات التأويلية المعاصرة في أفق مطالب وتطلعات المجتمعات العربية الراهنة.
وعلى الرغم من النتائج الباهرة المستمدة من هذا المجهود التأويلي الواسع، إلا أن الاهتمام التراثي لم يواكبه مجهودٌ نوعيٌّ في الإسهام في الحركة الفلسفية العالمية، وظل المشغل التراثي حاجزًا دون الكتابة الفلسفية من المنظور الكوني الذي هو الأفق الحقيقي للتفكير الفلسفي.
لا خلاف أن أفلاطون عندما كتب كتابه الأساسي “الجمهورية” كان يعالج أزمة المدينة الديمقراطية اليونانية، لكن كتابه تناول في ما وراء هذه الخلفية الظرفية مسألة العدالة في أبعادها الوجودية والمعرفية والأخلاقية، ومن ثم كان كتابه من ثوابت ومرتكزات الفكر الفلسفي على مر التاريخ.
نفس الحكم يصدق على الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز في كتابه “اللفيتان” الذي يعكس ظروف المجتمع الإنجليزي في عصره وأجواء الحرب الأهلية الدامية التي عرفتها بلاده، لكن الكتاب كان أول تأسيس فلسفي حديث لنظرية الشرعية القانونية ودولة المواطنة.
ومع أن الفلاسفة الغربيين منذ ديكارت إلى هايدغر تناولوا بالدرس والنقد والتأويل تراث مجتمعاتهم، إلا أن هذا المنحى التأويلي اندرج دومًا في أفق التفكير الفلسفي الكوني ولم يكن نتاج هوس مرضي بمعضلات الهوية والغيرية التي هيمنت على الفكر العربي المعاصر.
لقد نبّه هيغل في بدايات القرن التاسع عشر إلى أن سردية “الذاتية” ومفهوم الحقيقة المرتبط بها (التطابق بين الفكر المتمثلة والموضوع) لها خلفياتها اللاهوتية ضمن العقيدة المسيحية. كما أوضح كارل شميت في كتابه “اللاهوت السياسي” أن المفاهيم السياسية الحديثة مثل السيادة والتمثيل هي مجرد “مقولات لاهوتية معلمنة” بما يبرز بوضوح في أدبيات هوبز، وروسو وسبينوزا التي لا يستقيم فهمها إلا بربطها بهذه الأصول اللاهوتية، وهو ما سعى إليه الفيلسوف الإيطالي “جورجيو أغامبن” في أعماله الأخيرة.
لا يعني الأمر هنا التهوين من القيمة الحداثية لهذه الأفكار التي يعتقد خطأ أنها مناهضة للدين ونشأت على أنقاضه، وإنما غرضنا هو أن نبين الحركة التأويلية المزدوجة في الفلسفات الأوروبية المعاصرة من حيث هي في آن واحد نتاج مقاربة وصل واستيعاب، ونهج إبداع وتجاوز. لا نجد لدى الفلاسفة الأوربيين هذا الهوس الباثولوجي بمناهج وطرق قراءة التراث، وإنما نلمس النجاح العملي في البناء التأويلي المبدع ضمن مقتضيات التفكير الإنساني الكوني.
ما يتعين التنبيه إليه هو أن المسألة التراثية في الفكر العربي المعاصر كانت نتاج تأويليات القطيعة التي نفذت إلى الفلسفة العربية الراهنة من بوابة الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم (غاستون باشلار وتوماس كون). المشكل في هذا التوجه الإبستمولوجي هو تحويل النص المرجعي الذي هو أفق الانتماء والهوية ومخزون المعنى والقيم إلى ظاهرة موضوعية صماء، بما يفسر المتاهات العقيمة التي دخل فيها الفكر الفلسفي العربي المعاصر.