في مقالة مهمة للمفكر الأمريكي “فرنسيس فوكويوما” في عدد آب/أغسطس من “المجلة الآسيوية للإدارة العمومية” بعنوان “في الدفاع عن الدولة العميقة” (In defense of the deep state)، نقرأ جانبًا من النقاش الأساسي الدائر حاليًا حول ثنائية المسؤولية الديمقراطية والكفاءة البيروقراطية للدولة.
لقد بدأ النقاش بقوة مع عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر الذي أسس في نظريته حول الشرعية خصوصية الدولة الليبرالية الحديثة في كونها دولة بيروقراطية إدارية تقوم عل مؤسسات عمومية غير شخصية، وفق مقاربة عقلانية أداتية للنظام السياسي.
الإشكال الذي طرح منذ فيبر هو: ما هي العلاقة المنطقية ما بين الطابع الديمقراطي للدولة الليبرالية الحديثة الذي يحيل إلى مبدأ السيادة المطلقة للأمة والحرية الكاملة لممثليها في إدارة الشأن العمومي والطابع البيروقراطي الإداري الذي يكفل استقلالية القرار والمسؤولية لنخبة فنية مهنية تدير المؤسسات والمصالح العمومية دون تدخل من السلط السياسية المنتخبة؟
لقد اعتبر الفيلسوف والقانوني الألماني كارل شميت أن هذا الإشكال يترتب عليه تناقض داخلي غير محسوم في الدولة الليبرالية الديمقراطية، التي هي من جهة التعبير عن الإرادة المشتركة المطلقة وغير المقيدة وبالتالي فهي تقوم على معيار السلطة الاستثنائية ما دامت هي نفسها مصدر الشرعية النهائي، لكنها من جهة أخرى تخضع لمدونة وضعية وقانونية ليس لها حق تجاوزها أو التصرف فيها بما يحد عمليًا من سيادة الفعل السياسي الذي لا معنى له إلا إذا كان مطلق اليد.
أما مفهوم “الدولة العميقة”، فقد استخدم أولًا في تركيا للإشارة إلى قوة المؤسسات العسكرية والأمنية في مقابل الحكومات السياسية، ووظف في بعض الأدبيات الرائجة حول الانفصام القائم داخل الديمقراطيات الناشئة بين مراكز القوة الإدارية البيروقراطية وهياكل السلطة المنتخبة.
إلا أن هذه المقولة ظهرت بقوة في السياق الأمريكي في اتجاه آخر، هو التخوف الدائم من تغول المؤسسات الفيدرالية الحكومية على حساب سلطة الشعب منظورًا إليه بصفته كتلة واسعة متمردة على استبداد النخب الإدارية المركزية. لقد بلغ هذا التوجه حده الأقصى مع ظاهرة ترامب الذي ركز خطابه السياسي على مواجهة ديكتاتورية الدولة العميقة المعيقة للديمقراطية الحقيقية. في العديد من البلدان الأوروبية، ظهرت هذه النغمة الشعبوية وتجسدت في الخطاب المناوئ لتحكم بيروقراطية بروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي) في شؤون الدول السيادية بما أفقد الديمقراطية مضمونها الحقيقي.
يلاحظ فوكويوما أن ثنائية المسؤولية الديمقراطية والكفاءة البيروقراطية هي اليوم خط التصدع البارز بين نمطين مختلفين من الشرعية، لا بد من الجمع بينهما. ففي الصين، تحكم نخب بيروقراطية ذات كفاءة عالية هي مصدر النهضة الاقتصادية والعلمية دون أن يكون للديمقراطية السيادية أي دور فعلي، وهي ظاهرة لها جذورها التاريخية والمجتمعية البعيدة العميقة. لكن النموذج الصيني يظل بالنسبة لفوكوياما هشًا لافتقاده الحيوية النقدية والإصلاحية التي لا تتوفر إلا في الأنظمة الديمقراطية الحرة والمفتوحة.
أما في الكثير من الدول الأوروبية ذات الأنظمة الليبرالية، فتغلب الحركية الديمقراطية على كفاءة النخب البيروقراطية، بما يسبب فشل السياسات العمومية نظرًا لسرعة تقلب الأحكام المنتخبة، وإن كانت المعادلة المتوازنة المطلوبة قائمة في بعض البلدان وبصفة خاصة دول أوروبا الشمالية.
باستلهام أطروحة فوكوياما في السياق العربي، يتبين لنا أن المعادلة مختلة الوجهين في بلداننا، حيث نفتقد في آن واحد النظم البيروقراطية الناجعة والمستقرة ومؤسسات الرقابة والمشاركة التي هي أساس المسلك الديمقراطي.
في المستوى الأول، نلاحظ غياب مقتضيات الشفافية والموضوعية في إدارة الشأن العمومي نتيجة لهيمنة منطق الزبونية، والولاء والمنفعة الشخصية في تسيير دائرة المصالح الإدارية البيروقراطية للدولة، بما يدخل في نطاق ما أطلق عليه بعض الباحثين “الأنظمة الأبوية الجديدة” التي تتسم بثلاث سمات أساسية هي: المغالاة في شخصنة السلطة، وسيادة علاقات الزبونية والمنفعة، وسوء استخدام وتوزيع موارد الدولة.
ومن المعروف أن ماكس فيبر قد تحدث عن النظام الأبوي (الباترومونيالي) من حيث هو نظام تقليدي ما قبل حداثي، يتأسس على السلطة الفردية المطلقة وعدم التمييز في إدارة الحكم ما بين الحقل الخاص والحقل العام. إلا أن ما يميز الأنظمة الأبوية الجديدة هو استخدامها لأدوات السلطة البيروقراطية الإدارية المميزة للدولة الحديثة وفق الأساليب الأبوية التقليدية.
ومن هنا، تطلى الأساليب الأبوية في التسلط السياسي بطلاء بيروقراطي حديث، بحيث تتحول المؤسسات العمومية التي يفترض أن تشكل القاعدة الموضوعية لتجسيد الدولة إلى هياكل لتوطيد هيمنة السلطة الفردية المطلقة. وفي الاتجاه نفسه، يوظف المعجم الديمقراطي في تثبيت التحكم الأحادي في القرار والسلطة باسم سيادة الشعب وشرعية الواجهة المنتخبة، في الوقت الذي تفقد الممارسة السياسية كل آليات الرقابة، والتوازن والمشاركة التي هي المضمون الحقيقي للديمقراطية التعددية.
في دراسة مهمة حول الحالة السياسية التونسية قبل أحداث يناير/كانون الثاني 2011، بينت الباحثة الفرنسية “بياتريس هيبو” أن النظام السياسي التونسي في أيام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي قام على ما أسمته “قوة الخضوع” التي هي نمط من التحكم الناعم الذي يقوم على إدارة المنافع العمومية بكفاءة ونجاعة من خلال الحلف مع النخب البيروقراطية في مقابل السكوت عن المطالب الديمقراطية. وقد درست الباحثة مستويات هذا التواطؤ في السياسات الاقتصادية العمومية ونمط إدارة وتسيير موارد الدولة، لكنها بينت أنه على عكس التجربة الصينية التي انتقلت إلى جل البلدان الآسيوية، استخدم التسيير البيروقراطي كأداة من أدوات التحكم السياسي بدلًا من منح الاستقلالية للمؤسسات البيروقراطية، بما أثر سلبًا على وضع وأداء النخب الإدارية البيروقراطية المندمجة في منظومة الفساد التي هي قلب النظام السياسي.
يمكن تعميم هذا النموذج على كثير من التجارب السياسية العربية الراهنة. وإذا كان البعض يطرح خيار سلطة النخب الفنية البيروقراطية غير المسيسة (الحكومات التكنوقراطية) بديلًا من الديمقراطيات الناقصة والفاسدة، فإن الحل الحقيقي لأزمات الحوكمة في العالم العربي يتطلب التوازن الذي تحدث عنه فوكويوما بين المسؤولية الديمقراطية والكفاءة التكنوقراطية.