ليو شتراوس فيلسوف هام من أصول يهودية ألمانية، هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1937 وكان أستاذًا شهيرًا في جامعة شيكاغو من 1949 إلى 1969 وتوفي سنة 1973. ولا شك أن شتراوس من أهم الفلاسفة المعاصرين، بدراساته المتميزة في الفلسفة السياسية، والرؤية الجديدة التي بلورها للفلسفة الكلاسيكية اليونانية واليهودية العربية. ما عرف به شتراوس في الفلسفة المعاصرة هو نقده الجذري للحداثة والتنوير ولمقولات الذاتية والعلمانية والتقدم، ودفاعه عن التقليد والتراث والتصور الأخلاقي للسياسة، رغم أنه لم يكن مفكرًا لاهوتيًا دينيًا.
انخرط شتراوس في شبابه في الحركة الصهيونية ووقف مع مشروع هرتزل “لتحرير الشعوب اليهودية” وتحمس لنشأة دولة إسرائيل ورأى فيها حلًا واقعيًا للمسألة اليهودية. لكنه بداية من الثلاثينيات بدأ يبتعد عن الصهيونية السياسية، ويوجه لها انتقادات حادة من منظور فلسفي ديني يتمحور حول تأسيس الفكر الصهيوني على خلفيات نظرية وأيديولوجية حداثية وقومية، تتجسد في المقاربة القومية الحقوقية للرابطة الأهلية اليهودية.
فإذا كانت الصهيونية السياسية كرست معايير “الكرامة” و”التحقق التاريخي” للشعب اليهودي، إلا أنها ضاعت في المتاهات الأيديولوجية الحداثية بدلًا من أن تعبر عن جوهر اليهودية التي تقتضي نقل تجربة الوحي والألوهية المطلقة خارج مجال الوعي والمفهوم. ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن النزعة الصهيونية الأولى لدى شتراوس كانت تندرج في نطاق نقده الصارم للحداثة والتنوير، وكان في البداية يرى أن مشروع الانبعاث اليهودي يشكل بديلا عن الحداثة الأوروبية، من خلال ثلاثية الإله والدين والشرع، التي هي بالنسبة له النقيض للعقلانية الحداثية في توجهاتها التاريخانية والوضعية. كان في هذه المرحلة متأثرا بمقولة الهوية الثقافية الخاصة بالأمة اليهودية التي انطلق منها مشروع هرتزل ويعتبر أنها تحمي الشعوب اليهودية من مخاطر الليبرالية والرأسمالية، وقد نوه في كتاباته الأولى بما سماه بالواقعية السياسية لهرتزل في خطابه الثقافي الروحي الذي توهم أنه قادر على إعادة
بناء الشخصية اليهودية. إلا أنه سرعان ما انفصل عن خط الصهيونية السياسية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، عندما أدرك أن العقيدة الصهيونية تحولت إلى أيديولوجيا قومية تتأسس على فكرة “تطبيع” الوضع اليهودي عبر بناء دولة تكرس الهوية الجماعية اليهودية، بما يتعارض في الجوهر مع الأفق المسياني (الانتظار المقدس) للوعد الإلهي بما يعني أن الدعوة الصهيونية تتناقض في المسعى والغاية عن الديانة اليهودية. ومع أن شتراوس لم يقف ضد إعلان الدولة العبرية، بل دافع عن قيامها وكتب مقالة شهيرة في صحيفة
“ناشيونال رفيو” المحافظة (5 كانون الثاني/ يناير 1957) يرد فيها على من يتهم إسرائيل بالعنصرية والحالة الاستعمارية، إلا أنه لم يجد فيها الصورة المنشودة ولا المثال المطلوب. لقد رأى أن الصهيونية السياسية هي في حقيقتها نزعة إلحادية لا دينية وإن كانت تنطلق من خلفيات ثقافية وعقدية يهودية. وما دام لا يمكن بالنسبة له حل المسألة اليهودية من منظور علماني ليبرالي، فإن الصهيونية السياسية لا تتجاوز استغلال المأساة اليهودية من أجل نشر وبسط نموذج سياسي حداثي لا يختلف من حيث الأسس السياسية والقانونية عن الدول الليبرالية الأوروبية التي هي المصدر الأصلي للمشكل اليهودي. إنها تتنكر لقيم الإيمان والطاعة والخشية التي هي المقومات الروحية لليهودية، ومن ثم فإن الصهيونية ليست التعبير السياسي عن الروح اليهودية بل هي نسف لها في العمق والنتيجة. بداية من الأربعينيات، انفصل شتراوس كليا عن الصهيونية، ووجه اهتمامه إلى التقليد الكلاسيكي في فلسفة أفلاطون والفارابي وابن ميمون. ما تقوم عليه هذه الفلسفة الكلاسيكية هو التصور الأخلاقي للسياسة من خلال البحث عن أفضل نظام للسلطة، والنظر لتجربة الحكم من حيث هي نمط من التربية بالمفهوم القيمي، وذلك ما يدخل في ما سماه شتراوس بالتنوير الكلاسيكي الذي يختلف عن التنوير الحديث من حيث الارتباط الإشكالي الثري بين العقل والوحي، بين الدين والفلسفة، مع محورية القانون المطلق والأزلي الذي هو شرط العدالة الشاملة والناجعة. ومع أن شتراوس كتب في تاريخ الفلسفة نصوصا هامة، إلا أنه اعتبر أن الفلسفة اليونانية الأوروبية ليست سوى وجه واحد من وجوه التفكير في القضايا الإنسانية الكبرى، ولذا تحتاج إلى الإرث الديني (التوراتي
التوحيدي) لكي تعمق نظرها الوجودي والأخلاقي، وذلك ما عناه بثنائية أثينا والقدس في الفكر الإنساني. ماذا نستنتج من نقد ليو شتراوس للصهيونية السياسية؟ ينبغي التأكيد هنا على أن شتراوس نجح في تكريس خط هام في الفكر الفلسفي يعيد الاعتبار لمفاهيم التقليد والسلطة والشرع في مقابل الفلسفة التاريخانية الوضعية، كما أن نقده للحداثة ولفكرة التقدم أثر بصفة شاملة ومكينة في الأدبيات الفلسفية، في ما وراء التيارات اليمينية المحافظة التي بادرت بتبنيه ونشر أفكاره. ومع أن بعض وجوه الفكر الإسرائيلي ترجع إليه في نزعته الثقافية الروحية اليهودية، إلا أن طرفي الصهيونية في إسرائيل (الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية) يتفقان على رفض أفكاره النقدية للنزعة القومية السياسية التي تتأسس عليها الأيديولوجيا الصهيونية. بالنسبة للتيار الصهيوني الديني، لا ينتمي شتراوس للتقليد اليهودي وإن كان يدافع عن رمزيته التاريخية ،ذلك أنه لا يرى في مفاهيم الاصطفاء والوعد والرابطة الأخلاقية سوى مفاهيم للنظر الفلسفي توظف في إطار إنساني كوني يفقدها مرجعيتها الدينية الأصلية. وبالنسبة للتيار الليبرالي، يشكل نقد شتراوس الجذري للقيم العلمانية والعقلانية والتنويرية عائقا خطيرا يحول دون تشكل حالة سياسية قابلة للاندماج النشط في المنظومة العالمية. ما يهمنا في نهاية المطاف هو أن شتراوس أدرك بحسه الفلسفي الثاقب أن الأيديولوجيا الصهيونية لا يمكن أن تشكل حلا ناجعا ودائما للمسألة اليهودية، وأقصى ما يمكن أن تصل إليه هو بناء دولة قومية غربية تضم سكانا من أصول يهودية مختلفة. وإذا كان تطبيع الوضع اليهودي هو الغرض من الفكرة الصهيونية فإنه قابل للتحقق من خلال مفهوم الاندماج الإيجابي في الدول الديمقراطية الليبرالية الغربية، إذ لا فرق بين الاندماج الاجتماعي في دول قائمة والاندماج في النظام الدولي من خلال دولة لا تختلف في شيء عن بقية دول العالم الغربي الليبرالي.