من بين فلاسفة الغرب، يتميز جاك دريدا بجذوره اليهودية العربية كما يقول، وهو الذي ولد وعاش سنوات عمره الأولى في الجزائر.
تحدث فيلسوف التفكيكية كثيرًا عن أصوله اليهودية، بل تسمى في أحد كتبه باليهودي الأخير، لكنه رفض النزعة القومية الصهيونية في توجهها المسياني وتركيزها على “الأرض المقدسة” الذي يتنافى حسب رأيه مع التقليد اليهودي نفسه القائم على الشتات، اليهودي الأخير هو أيضًا “أقل الناس يهودية” نتيجة رفض الانتماء القبلي والمجموعاتي، وبالنظر إلى القطيعة مع الانتماء الأصلي والجذور الأسطورية المفروضة. اليهودية من هذا المنظور هي عكس الطموح السياسي لإنشاء دولة قومية باسم الهوية الخصوصية “النقية”، وليس لها مبرر إلا إذا كانت نمطًا من الالتزام الأخلاقي الكوني والضيافة الرحبة، وذلك بالضبط عكس ما تقوم عليه الصهيونية والدولة الإسرائيلية.
اختلف دريدا مع صديقه الفيلسوف الفرنسي ذي الأصول اللتوانية اليهودية أمانويل لفيناس الذي حاول بناء فلسفة أخلاقية بديلة عن فلسفة الوجود الغربية من خلال الرجوع إلى النصوص اليهودية الكلاسيكية من توراة وتلمود.
اليهودية بالنسبة للفيناس هي فكر المغايرة، والاختلاف والمسؤولية الأخلاقية بدلًا من الميتافيزيقا الغربية التي تنغلق في مباحث الوجود فلا تبقي مكانًا للإنسان من حيث هو وجه يفرض الاحترام، ويمنع القتل والعنف.
إلا أن لفيناس هو الذي وقف بقوة مع إسرائيل، بل يعزى له القول العنصري بأن الفلسطيني “لا وجه له”، بما يعني أنه عرضة للقتل والإبادة وقد حرم من إنسانيته وأصبح عرضة للعنف بذريعة “الحرب العادلة” ومنطق الدفاع عن النفس.
ومن هنا تساءل لفيناس في بعض نصوصه حول تهديد الشعوب الآسيوية لما سماه “أصالة الكونية اليهودية المتجددة “.
لقد بينت الفيلسوفة الأمريكية اليهودية “جديث باتلر” في كتابها الهام “فك الارتباط: اليهودية ونقد الصهيونية ” (Parting ways : jewishness and the critique of zionism) أن أخلاقيات لفيناس تتعارض مع مواقفه السياسية الداعمة لإسرائيل وللصهيونية التي اعتبر أنها “مظهر بقاء اليهودية”، بينما المطلوب من المفكرين اليهود هو القطيعة الأخلاقية مع الصهيونية ومع إسرائيل وتصدر محاربة هذه النزعة العنصرية من منظور قيمهم المرجعية .
في هذا السياق نقول باتلر معلقة على لفيناس وغيره من المفكرين اليهود المتعاطفين مع إسرائيل:
” لن تتحقق المبادئ العامة للعدالة في المنطقة، إلا عندما تنتهي الصهيونية السياسية، أي إرادة تأسيس دولة إسرائيل وتنتهي مبادئ السيادة اليهودية”.
لا يختلف دريدا عن هذا الرأي رغم اهتمامه الواسع بالتراث اليهودي من منظور غير ملتزم دينيًا، ورغم زياراته المتكررة لإسرائيل التي حرص دومًا أن يلتقي خلالها ببعض الوجوه الفلسطينية في إطار ما سماه بموقف “الحلف الدائم مع القضية الفلسطينية “.
يرفض دريدا موقف الانحياز القبلي لدولة اليهود، معتبرًا في مقابلة منشورة قبيل رحيله سنة 2004 في صحيفة لموند الفرنسية أن الصهيونية لا تمثل اليهودية، وأن إسرائيل حالة انتحارية مأساوية لا يمكن الدفاع عنها، ومن هنا يوجه النقد الصارم للكتاب اليهود الذين يرمون كل من ينتقد السياسات الإسرائيلية بالعداء للسامية في ما يترجم سلوكًا تسلطيًا دوغمائيًا.
لم يتردد دريدا في وصف إسرائيل “بالدولة الاستعمارية الأخيرة”، وكان شجاعًا وصريحًا في الوقوف ضد سياساتها العنصرية القمعية ضد الفلسطينيين.
لقد عاصر دريدا مفكرين فرنسيين بارزين من أصول يهودية هما ريمون آرون الكاتب والصحافي اليميني الذي كان شديد الانحياز لإسرائيل إلى حد أنه برر عدوان 1967 وكتب كتابًا بعنوان “ديغول وإسرائيل واليهود” يتهم فيه الزعيم المشهور الجنرال ديغول بمعاداة السامية، والثاني هو عالم الأنثربولوجيا ومؤسس المدرسة البنيوية كلود ليفي شتراوس.
لقد كان شتراوس أمينًا فكريًا، وقد وقف ضد سياسة إبادة الفلسطينيين وترحيلهم من أرضهم، وقال إنه لا يريد أن يتناقض مع نفسه، فيبرر قمع وطرد العرب من بلادهم التي يعيشون فيها منذ قرون وهو الذي طالما ندد بحملات إبادة الهنود الحمر في أمريكا على يد غرباء لاجئين هاربين من القمع والظلم في أوروبا كما هو بالضبط شأن اليهود اليوم في فلسطين .
لقد كان دريدا قريبًا من رأي شتراوس، كما يظهر في نصوصه الأخيرة التي خصصها للضيافة، والعفو، والهبة والصداقة من منظور يعيد فيه التفكير في معايير العدالة والقانون من منطلقات لا تخفى جذورها في التراث اليهودي الذي يرى أن الصهيونية قد دنسته في مقاربتها للدولة القومية المتسلطة.
ولا شك في أن في نصوص دريدا وفلسفته التفكيكية ما يسمح بالنقد الجذري للفكرة الصهيونية، رغم قلة الإشارات والإحالات بخصوص هذا الموضوع في أعمال دريدا، باستثناء بعض النصوص الهامشية في كتبه مثل “الكتابة والاختلاف” و”اليهودي الأخير” و”في وداع أمانويل لفيناس “.
لقد كانت مواقفه أوضح من آراء جان بول سارتر وأكثر موضوعية وإنصافًا من مواقف لفيناس وريمون آرون، بل إنه في أحد كتبه الأخيرة (وهو الكتاب الحواري مع المفكر والوزير الجزائري السابق مصطفى شريف) اعترف صراحة بانتمائه للثقافة العربية الإسلامية التي تجعل منه بمعنى ما فيلسوفًا عربيًا انتماء وفكرًا رغم أنه كتب كل أعماله تقريبًا باللغة الفرنسية. لقد اعتبر أنه ظل هامشيًا في الفكر الغربي لأنه يطل عليه من نافذة ثقافية مغايرة ويطرح عليه أسئلة غير مسبوقة، بما كلفه ثمنًا باهظًا من حيث الاعتراف والقبول، مبينًا أن مواقفه المتعاطفة مع الشعب الفلسطيني كانت من الخلفيات الأساسية لتهميشه في المعترك الفلسفي الغربي .
لقد ظل دريدا شديد القلق بخصوص هويته اليهودية التي ليست بالنسبة له محدد انتماء ولا يراها قابلة للتجسد في شكل كيان سياسي قومي، ومن هنا انتقاده الصريح للحالة الإسرائيلية وتنبيهه إلى أنها لا يمكن أن تستوعب المخزون الأخلاقي للتقليد اليهودي كما توهم لفيناس .
اليهودية التي حافظ عليها دريدا في شكل شبحي حسب عبارته هي يهودية الشتات والتيه والنص قابل التأويل إلى اللانهاية، ومن هنا فهي يهودية مناوئة بالضرورة للصهيونية الأوروبية التي أسست الدولة الإسرائيلية على خلفية الإرث اليهودي “المدنس”.