الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

المسألة اليهودية في الفكر الغربي(7)
جديت باتلر والنقد الأخلاقي للصهيونية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

قبل أيام، منعت بلدية باريس الفيلسوفة الأمريكية من أصول يهودية “جديت باتلر” من إلقاء محاضرة عمومية حول نزعة العداء للسامية وتوظيفها الراهن، بذريعة ما قد يترتب على الحدث من احتقان سياسي واجتماعي ينعكس سلبًا على الأمن الداخلي الفرنسي.

لم تكن جديت باتلر معروفة بمواقفها السياسية، بل بفلسفتها الأخلاقية والاجتماعية،  التي تمحورت حول أفكار العدالة الجندرية وعلاقات النوع، إلا أنها كانت أصدرت سنة 2012 كتابًا مهمًا بعنوان “التعايش: اليهودية ونقد الصهيونية” خلّف ضجة هائلة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا وداخل إسرائيل.

في هذا الكتاب لا تخفي جديت باتلر رفضها الجذري للأيديولوجيا الصهيونية ومسار الدولة الإسرائيلية، رافضة بقوة أن يكون نقد إسرائيل والصهيونية داخلًا في نطاق العداء للسامية.

بل إن جديت باتلر تذهب أبعد من ذلك، فترى أن اليهود هم أولى الناس بنقد الصهيونية والتبرؤ منها من منظور أخلاقي قيمي. ولهذا الغرض ترجع إلى عديد من المفكرين اليهود، من بينهم من نقد فعلًا الصهيونية مثل حنة آرندت  ومارتن بوبر، ومنهم من تلكأ في هذا النقد لكن من الممكن الاستناد إلى فكره في تفكيك العقيدة الصهيونية مثل إمانويل لفيناس، وفالتر بنيامين وفرانتز كافكا، وقد أضافت إليهم وجهين فلسطينيين بارزين هما إدوارد سعيد ومحمود درويش.

لا تتردد جديت باتلر في القول إن الصهيونية في أسسها ومنطلقاتها نزعة عنصرية ترفض العدالة والمساواة، ولا يمكن قبولها أخلاقيًا. ومن هنا فهي تتعارض مع ما تعتبره المنظور الأخلاقي الجوهري في الديانة اليهودية من أفكار المغايرة، والكونية الإنسانية وضيافة الغريب.

وهكذا ترجع جديت باتلر إلى ما تعتبره المرتكزات الثلاثة المؤسسة للأخلاقية اليهودية فلسفيًا وهي الترابطية الإنسانية، والتعددية والضعف والهشاشة، لتبين أن بناة الأيديولوجيا الصهيونية قد تنكروا لهذه المثل الأخلاقية التي لم يفتأ المفكرون اليهود يحيلون إليها ويرون فيها البديل عن ثنائية القومية العرقية والعنف السياسي التي طبعت التجربة الأوروبية الحديثة.

من هنا، ترى باتلر أن الصهيونية بتحويلها الرابطة الدينية اليهودية إلى مكون قومي مغلق وبتبنيها فكرة الدولة القومية لليهود نسفت كل التقليد اليهودي، وبالتالي لا يمكن النظر إليها بصفتها عقيدة لتحرير اليهود أو تأمينهم.

بالغوص العميق في كتابات الفلاسفة اليهود المحدثين، تقف جديت باتلر عند ثلاثة محددات نظرية رئيسية هي: مفهوم المغايرة والاختلاف الذي بلوره لفيناس وإن كان قصر عن ترجمته في الواقع السياسي، وذاكرة القهر والنسيان التي تحدث عنها بنيامين وحنة آرندت، وواجب الإحساس بمعاناة الإنسان غير اليهودي.

في المفهوم الأول، ترجع باتلر إلى لفيناس في مقاربته المبتكرة لعقيدة الاصطفاء خارج القاموس الديني التمييزي، بما يتناسب مع قداسة الوجه الإنساني التي هي المرجعية العميقة للتآخي ومنع العنف والكراهية، باعتبار أن الآخر حاضر ضرورة في قلب الذاتية، وأن الفرد لا يمكنه أن يكون شفافًا مع ذاته وفي علاقة مباشرة معها، بل هو في جوهره مشدود إلى الغير مفتقد إلى التفاعل الحي الكثيف معه. لقد اعتبر لفيناس أن الأخلاقية اليهودية تقوم في أساسها على الغيرية، ومن ثم لا معنى للتمييز بين البشر على أساس الاعتقاد الديني والقومي، وقد كان حريًا به من هذا المنطلق رفض منطق الاستعلاء والتمييز الذي تقوم عليه الفكرة الصهيونية.

أما المفهوم الثاني، فيرجعنا إلى دور الذاكرة في نقل تجربة النفي والموت والجلاء في مقابل تسلط وعدوانية القومية  السياسية السيادية. بالاستناد إلى بنيامين،  ترى باتلر أن النزعة الأخلاقية اليهودية تتعارض مع فكرة الدولة القومية التي تقوم على احتكار العنف وفرض الرقابة والقمع على المجتمع. ولم تكن الدولة الصهيونية سوى نموذج سيئ لهذه الدولة في تسلطها، وقهرها وقساوتها.

وفي توظيف طريف لنظرية حنة آرندت في اللجوء وانعدام الوطن، ترى باتلر أن إسرائيل تأسست على هدف التطهير العرقي، وتهجير ملايين الفلسطينيين ومنعهم من حق عودتهم إلى وطنهم، في الوقت الذي تمنح “حق العودة” لليهود القادمين من مختلف أصقاع العالم. إن هذا التناقض التأسيسي بين حل أزمة “اللاجئين اليهود” وتأجيج مأساة “اللاجئين الفلسطينيين” يرجع حسب باتلر إلى نموذج الدولة القومية بمفهومه الإقصائي التمييزي الذي اعتمده بناة “الدولة اليهودية”.

في المفهوم الثالث، ترجع باتلر إلى المفكر والأديب الفلسطيني إدوارد سعيد الذي بين في أعماله الأخيرة أن ما يجمع بين اليهودي والفلسطيني هو تجربة النفي والضياع واللجوء، بما كان من المفروض أن يقرب بينهما بدلًا من أن تتحول الدولة اليهودية إلى حالة استعمارية تقليدية تعيد تمثيل تجربة الاضطهاد اليهودي في فلسطين وتعرض سكانها لنفس المأساة الرهيبة التي مر بها اليهود في أوروبا.

لا تتردد جديت باتلر في القول إن الحل الوحيد الممكن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو إنهاء الاحتلال والخروج من وضع الدولة القومية اليهودية،  بتأسيس دولة واحدة مزدوجة الهوية القومية، تمنح الفلسطينيين حق تقرير المصير وتعطي اللاجئين الفلسطينيين حق العودة إلى بلادهم، ولو كان الثمن هو تدمير الدولة التي حلم بها بناة المشروع الصهيوني منذ هرتزل.

المطلوب حسب جديت باتلر هو الخروج كليًا من “الهوية المغلقة” التي قامت عليها إسرائيل التي ترفض وصفها بالبلد الديمقراطي،  في مقابلة أخيرة مع صحيفة “لافانغرديا” الإسبانية تقول جديت باتلر:

“لا أعتقد أن إسرائيل دولة ديمقراطية، فالديمقراطية التي تقوم على الاستغلال الدائم للأفراد وإخضاعهم الجذري أو قتلهم فقدت الأسس التي تستند عليها شرعيتها الديمقراطية”.

في الكتاب الذي استعرضنا، تحتفي جديت باتلر بأخلاقية التيه واللجوء والغياب، وترجع في هذا السياق إلى الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش الذي حول الغياب إلى فلسفة إنسانية متكاملة،  وهو الذي كتب مرة:

“يبتدئ السماويُّ الخفيُّ. أَنا هُنا أَزِنُ

المدى بمعلَّقات الجاهليَّين… الغياب هُوَ

الدليلُ هُوَ الدليلُ. لكُلِّ قافِيَةٍ أُقمتْ

خيمةٌ. ولكُلِّ شيء في مهبِّ الريح

قافيةٌ. يُعَلِّمني الغيابُ دروسه: ((لولا

السرابُ لَماَ صَمَدْتَ…)) وفي الفراغ

فَكَكْتُ حرفاً من حروف الأبجديّات القديمة،

واتَّكَأْتُ على الغياب.”